Saturday, July 22, 2023

ما بعد قمة الناتو هل تلعب بكين دور الوساطة لإنهاء الحرب في أوكرانيا - م. ميشيل كلاغاصي


 لم يشهد تاريخ الصراعات الدولية تشابكاً وتعقيداً على غرار ما يحدث اليوم, فقد كانت هناك دائماً أوقات وضرورات تتقدم فيها الحروب العسكرية أو تتأخر عن العمل السياسي والدبلوماسي, كأسباب أو كنتائج, لكن ما يحصل اليوم هو مزجٌ كبيرٌ بينهما وبدون حدودٍ فاصلة, رُفع فيها سقف التحديات وتضاعفت سرعة تغيير المعادلات السياسية والميدانية , وفتح المجال أمام جنون الأهداف والغايات , وباتت الحروب تدميرية بالمطلق وساحات لكسر العظام , وبدأت لغة ومفردات الحرب العالمية الثالثة تتصاعد في خطابات الدول والساسة والعسكريين ووسائل الإعلام.

فالمشهد الدولي الحالي رصد مؤخراً إنعقاد قمة الناتو وعديد القمم والقاءات السياسية الثنائية, على وقع الحروب الساخنة الدائرة حالياً , والتحركات العسكرية التصعيدية الإستعدادية الإستفزازية , والمناورات والتجارب الصاروخية , رسائلٌ في كافة الإتجاهات , وسط غياب الرؤى والتوقعات النهائية , وما بين الحربين الساخنة واستمرار الحرب الباردة , يتساءل البشر عن حياتهم ومصيرهم ومستقبل كوكبهم.

إن تمسك الولايات المتحدة بالنظام العالمي الأحادي, وبغطرستها وهيمنتها على العالم , يدفعانها لرفض العالم متعدد الأقطاب , ويحتمان عليها مواجهة أعدائها وإضعافهم , والتفرد بالصين , بعدما حددتها عدواً رئيسياً وهدفاً مباشراً , وفرضته إعترافاً على دول الناتو في البيان الختامي لقمة فيلينوس , وبأن الصين تشكل تهديداً لحلف الناتو مجتمعاً.

وخلال قمة الناتو في فيلنيوس, حازت ملفات انضمام السويد وأكرانيا إلى الناتو وتركيا إلى الإتحاد الأوروبي, على اهتمامٍ كبير, وانتظر العالم بشغف وحذر ما ستؤول إليه قرارات القمة حول تلك الملفات , خصوصاً ما يتعلق بأوكرانيا والحرب التي تخوضها وهي المدعومةً من الولايات المتحدة وحلف الناتو والإتحاد الأوروبي والعديد من الدول الأوروبية الغربية والشرقية ودول البلقان وغيرها من دول العالم, خصوصاً وأن التصعيد العسكري والإشتباك السياسي والإعلامي بلغ ذروة ما كان من الصعب توقعه قبل شباط 2022.

فما أظهرته الولايات المتحدة منذ عام ونصف حتى اليوم , واعتمادها على حروب الوكالة, وسط احتمالية إندلاع الحرب العالمية الثالثة , ما لم تكن لتبنيه على فكرة المواجهة العسكرية الأمريكية المباشرة مع روسيا أو الصين أو كليهما معاً , وبات واضحاً أنها تبحث عن مواجهةٍ عالمية بين فريقين وكتلتين , تعمل من خلالها على قيادة فريقها الموسع , الذي يتخطى أعضاء الناتو الحاليين ليشمل من هم بحكمهم أيضاً , كأستراليا ونيوزيلندا واليابان وجمهورية كوريا الجنوبية , وبعض الدول المحتملة أيضاً كالهند وفيتنام والفلبين وإندونيسيا ودول أخرى والكيان الإسرائيلي , على امتداد مناطق الشرق الأوسط وآسيا والمحيط الهادئ , الذين تسعى واشنطن لكسر حياد بعضهم وأرجحة وتذبذب البعض الاّخر , وكسبهم من بوابة العداء لروسيا أو لأحد دول كتلتها وحلفائها كالصين وإيران وسورية وأفغانستان وباكستان ودول منطقة أوراسيا والقوقاز.

كذلك شكل ملفي إنضمام السويد وفنلندا دافعاً للرئيس زيلينسكي وحكومة كييف , لتعليق اّمالها على تسريع انضمامها إلى الناتو لكونه بإعتقادها قادراً على حسم المعركة الميدانية لصالحها , وجعل النصر الأوكراني أمراً ممكناً, وتجنبيها في الوقت ذاته الهزيمة الحتمية بالتوازي مع فشل "الهجوم المضاد". 

لكن قصور النظر لدى زيلينسكي جعله يخاطب المجتمعين في قمة فيلينوس بإستخفاف وعجرفة ووقاحة , وأخذ يتصرف كما لو أن العالم الغربي كله مدين له , وتجرأ على إهانة وزير الدفاع البريطاني بن والاس , ولم يقرأ معاناة الدول الغربية بعد عام ونصف من دعم أوكرانيا , وشح الأسلحة في مخازنهم , وتضرر إقتصادياتهم , وأزمة الطاقة التي تعدهم بشتاء كارثي للمرة الثانية , ولم يقرأ كذلك رفض واشنطن إنضمام أوكرانيا بذريعة أنها تخوض حرباً ولا تتمتع بالإستقلال الكامل , ولم يراع أهمية المحادثات السرية وغير الرسمية بين الولايات المتحدة وروسيا , وبأنه قد يجد نفسه مجبراً على توقيع صكوك الإستسلام , والدخول في مفاوضات أشبه ما تكون نوعاً من مقايضة بعض الأرض مقابل السلام.

إن سعادة بايدن أثناء القمة بزيادة عدد دول الناتو إلى 32 , تخطت حقيقة الأمر، ولم تخرج القمة واللقاءات الثنائية, عما كان متوقعاً من قبلها , ولم يصدر قرار صريح يعلن إنضمام أوكرانيا إلى الناتو , وكذلك ما يؤكد قبول الإتحاد الأوروبي عضوية تركيا .. ومع ذلك كانت بعض دول الناتو , وخصوصاً دول أوروبا الشرقية , تعلق اّمالها على نجاح القمة بإحداث تغييرٍ في الوضع الميداني الأوكراني , في وقتٍ يغيب عن أذهانها أن الناتو لا يخطط للتضحية بقواته لصالح دولةٍ كأوكرانيا وحرباً بالوكالة , وأنه يعتمد كلياً على الدول من غير أعضائه للمحافظة على زخم ووتيرة العدوان على روسيا , لذلك اتجه نحو تسليح أوكرانيا , ووضع رهانه وتركيزه على جورجيا ومولدوفا على أمل إضافة وافدين جدد , جاهزين وعلى أهبة الإستعداد لقتال روسيا.

صحيح أن دول الكتلة الأمريكية متساوون لجهة طاعة الولايات المتحدة وعدم الخروج عن قيادتها وهيمنتها , لكنهم منقسمون ضمنياً فيما بينهم ما بين تحالف الراغبين ببدء المفاوضات ووقف الحرب , وما بين تحالف الراغبين بإستمرارها كبولندا ودول البلطيق , وقد تكون بولندا كوريث "لإمبراطورية" النمسا وحلف وارسو , هي أحد أهم الحاقدين والباحثين عن الإنتقام من روسيا الإتحادية كوريثٍ للاتحاد السوفيتي , وتبحث عما هو أبعد من دعم أوكرانيا , وسط إحتمالية إقحام قواتها العسكرية في الصراع المباشر, خصوصاً وأن قمة فيلينوس لم تقدم إلى أوكرانيا ومن هم ورائها شيئاً مهماً ومنتظراً .

تخطىء السلطات البولندية ودول البلطيق وكل من يبحث عن طريقةٍ لدخول الحرب المباشرة إلى جانب القوات الأوكرانية , وبأنه سيلقون الدعم والمؤازرة والحماية من قبل الناتو , ولا بد من التعقل وتقييم النتائج الكارثية جراء دعم الناتو لأوكرانيا , ومدى احترامه لإتفاقية الدفاع الجماعي.

لا بد للدول والرؤوس الحامية فيها , من معرفة أن دعم الناتو للتدخل العسكري المباشر , يعني شيئاً واحداً فقط , ألا وهو اندلاع الحرب العالمية الثالثة في الواقع ، فإن دعم التدخل المباشر لحلف الناتو يدعم بدء الحرب العالمية الثالثة , التي ستشهد استخدام الأسلحة النووية حتماً , وما يعنيه من قتلٍ للبشر وتدميرٍ للأرض , لكن ما تثبته الوقائع حتى الاّن , هو قبول واشنطن برفع مستوى التصعيد إلى حدود قتل البشر فقط , من خلال تزويد كييف بالذخائر والقنابل العنقودية المحرمة دولياً , وبذلك وضعت واشنطن خطاً يفصلها عن بلوغ السطر الأخير, قد تفضي فيه الاتصالات السرية مع موسكو , بالتوقف عند هذا الحد , وقبولها والناتو بهزيمة أوكرانيا , وبالتفاوض الكبير مع جميع الأطراف على واقع جيوسياسي جديد , يضمن انتقال النظام العالمي بهدوء نحو نظام عالمي متعدد الأقطاب لن تكون فيه واشنطن شرطياً ولا دولةً منبوذة ولا مهيمنة , بل ستكون على قدر أهميتها ومكانتها , وهذا لن يضيرها , بل سيدفعها نحو ترميم نفسها , ومعالجة أزماتها , ويحافظ على فرصتها في المنافسة الحرة المتكافئة والعادلة .

كان لا بد لواشنطن من إدارك أن توسيع الناتو شرقاً , بأنه فكرةٌ غبية , هددت وجودها في عقر دارها , وفي أوروبا , واّسيا الوسطى , وحتى في سورية , وغير مكان , ويمكن له أن يدفعها نحو الحرب العالمية , ومواجهة الكتلة الروسية وقدراتها العسكرية , بدءاً مما يخبئه بوتين وصولاً إلى ما يعلنه كيم جون أون.

وعليه  ... سعت واشنطن مؤخراً , عبر زيارة وزيرة الخزانة الأمريكية جانيت يلين , إلى تخفيف التوتر مع بكين , لكونها أدركت مدى حاجتها إلى عدوها اللدود الرئيس شي جين بينغ , للعب دور الوساطة , وهو الدور الذي نجحت الصين فيه غير مرة , وأثبتت أنها وروسيا الإتحادية تشكلان القوى العظمى العاقلة , خصوصاً مع تصريح الرئيس بوتين بأنه لم ينكر على أوكرانيا "حقها  في ضمان أمنها وفي اختيار كيفية تحقيق هدفها ، لكن دون أن يشكل ذلك تهديداً لدولة أخرى".

م. ميشيل كلاغاصي

20/7/2023 

من واشنطن إلى بكين.. هل تحولت "الرياح والعواصف" إلى "قوس قزح" ؟ - م. ميشيل كلاغاصي


منذ عقود, تواجه الولايات المتحدة عقدة الصعود الصيني الهائل, وتخشى ذاك اليوم الذي ستتربع فيه على العرش الدولي, وقد تسبب ذلك بدفع الولايات المتحدة لإتباع سياسةٍ عدائية تجاهها, أدت إلى رفع مستمر لمستوى التوتر بين البلدين.

وفي السنوات والفترات الماضية, أظهرت الولايات المتحدة كل ما في جعبتها تجاه الصين, وإعتبرتها "المنافس الرئيسي" و"العدو الإستراتيجي", ومصدر الخطر والتهديد الأمريكي, كما اعتبرتها مسؤولة عن فيروس كورونا, والذي دعاه ترامب بـ "الكورونا الصيني" , كما أرّق مضجعها التطور العلمي والتكنولوجي والإقتصادي والتجاري وحتى العسكري الصيني, ناهيك عن تمدد نفوذها في محيطها وحول العالم، من خلال خطى ثابتة أكدت فيه بكين حضورها كقوة عظمى قادرة على قيادة العالم.

ولأجل ذلك, خاضت معها حرباً تجارية, وحرب العقوبات الإقتصادية, وحاولت ولا زالت تحاول قطع طريق الحرير التاريخي, ونسف مشروع الحزام والطريق, ولم تتوان عن المس بأمنها القومي بشكلٍ مباشر عبر بدعم حكومة تايوان, وبأشكالٍ أخرى تمثلت بالإنسحاب من أفغانستان, وبمد يد العبث نحو التيبت وتركستان الشرقية ومنغوليا, وبرعاية الجماعات المسلحة من بلوشستان الباكستانية إلى ميانمار، وجزر سليمان في المحيط الهادئ, لمهاجمة الدبلوماسيين الصينيين والمواطنين ومشاريع البنية التحتية والشركات الصينية, كذلك بشن الحروب على أهم حلفاء الصين كروسيا وإيران وسورية, ولم تتوقف عند حدود التطاول على الحزب الشيوعي الصيني, ورمزه الكبير الرئيس شي جين بينغ ووصفه مراراً بالدكتاتور ...

ومع ذلك تدرك واشنطن أن انتهاجها سياسة العداء والكراهية تجاه الصين, ستأتي بنتائج مدمرة على الولايات المتحدة, بالإضافة إلى أن اصطفافها إلى جانب أي طرف تحاربه الولايات المتحدة سيعقد المشكلة وسيجعل إمكانية إنتصار واشنطن مجرد حلم, وهذا بحد ذاته شكل جوهر قلقها ومخاوفها وانزعاجها في الحرب الدائرة حالياً مع روسيا في أوكرانيا, وفي وقتٍ باتت تخشى فيه مواجهة كلا الحليفين الروسي والصيني عسكرياً , كان لا بد لها من إبعاد الصين, والإتجاه نحو احتوائها ظاهرياً, وتخفيف التوتر معها على كافة الصعد.

وكما رأينا مؤخراً, فقد أثمرت عوامل القوة الصينية, ومنحتها ازدياداً واضحاً لمكانتها ووزنها الإقليمي والدولي خصوصاً في منطقة الشرق الأوسط , تُرجم من خلال نجاح الوساطة الصينية وإبرام الاتفاق ما بين إيران والسعودية, في وقتٍ لم تنفك فيه الولايات المتحدة عن تشويه سمعتها, وبمضاعفة لائحة إتهاماتها, بتهمة غريبة, زعمت من خلالها إقامة بكين قاعدة تنصت في كوبا لجمع المعلومات عن أميركا, في الوقت الذي تبدو فيه الصين أكثر إصراراً على ضرورة ووجوب "وقف التدخل الأميركي في شؤونها الداخلية" وبمطالبة واشنطن "بالكف عن الإضرار بمصالح الصين تحت اسم المنافسة".

وعلى الرغم من قصة المنطاد, واتهام بكين بالتجسس, وبتزويد موسكو بالسلاح لموآزرتها في حربها في أوكرانيا, اتجه وزير الخارجية انتوني بلينكن في حزيران الماضي إلى بكين, في زيارةٍ تم الإعلان عن أهدافها بشكل مسبق, لتفادي خطرالإنزلاق إلى احتكاك، وربما مواجهة عسكرية كثر الحديث والتوقعات عنها في واشنطن, ومع ذلك استقبلته الصين كضيفٍ عادي, وسط توقعاتها بتنازلاتٍ أمريكية يحملها الوزير بلينكن, وقد تشمل رفع بعض العقوبات.

لكن زيارة بلينكن لم تُحدث أي اختراق, في جدار العلاقات المتأزمة أصلاً, رغم مزاعمه بأنها "لإصلاح العلاقات الصينية – الأمريكية الممزقة", ولم تحمل الأخبار السارة لمن أرسله وإلى مستقبليه ..

ويطرح السؤال نفسه, هل أخطأ الوزير بلينكن وانحرف عن جوهر زيارته وأهدافها المعلنة, أم أنه كُلف بتخريب أيّ تحسن في العلاقات الأمريكية الصينية ؟ ونال الثناء وإشادة الرئيس بايدن بقوله: "لقد قام بعمل رائع خلال الزيارة", على الرغم من إعلانه من الصين أن بلاده لا تدعم استقلال تايوان, لكنها وبموجب  القانون الأمريكي للعلاقات مع تايوان, عليها "التأكد من أن تايوان لديها القدرة على الدفاع عن نفسها"، وبذلك كان بلينكن واضحاً لجهة استمرار بلاده بتحدي السيادة الصينية, وبتسليح تايوان دون طلب موافقة بكين.

وبمجمل اللقاء, تمسك كل جانب فيما يبدو بموقفه إزاء كل الملفات بدءاً من تايوان إلى التجارة، بما في ذلك الإجراءات الأميركية التي تستهدف صناعة الرقائق الصينية، وحقوق الإنسان والحرب الروسية الأوكرانية, كذلك تمسكت الصين برفضها العرض الأمريكي لإستئناف قنوات الإتصال العسكري, مع استمرار العقوبات الأميركية وبأنها تشكل العقبة الرئيسية أمام هذه الخطوة.

في وقتٍ تعمد فيه الرئيس بايدن بعد انتهاء الزيارة, ومن خلال خطاب تم بثه عبر الموقع الرسمي للبيت الأبيض, تكرار وصفه الرئيس الصيني بالديكتاتور... وهذا يدفعنا لسؤالٍ اّخر, لماذا تتعمد إدارة بايدن تخريب أي تحسن ممكن في العلاقات الأمريكية الصينية ؟.

لم تمض سوى عدة أيام على زيارة بلينكن, حتى وصلت وزيرة الخزانة الأمريكية جانيت يلين إلى بكين, وهي المسؤولة عن تحديد وفرض العقوبات, لتعويض فشل وزير الخارجية, وللإلتفاف والعودة, في إطار ما دعي في البيت الأبيض, بـ "خطة الرئيس بايدن" لدفع العلاقات بين واشنطن وبكين وتخفيف التوتر.

هذا التحول المفاجئ في الموقف الأمريكي, يبدو مرتبطاً بمجمل المعادلة الدولية, ومجمل الهزائم الأمريكية, وتحديداً مع فشل الهجوم المضاد في أوكرانيا, وحاجة الولايات المتحدة الماسة إلى تحييد أو إبعاد الصين, مع اندفاعها نحو المزيد من التصعيد الخطير, وتسليح قوات كييف بالأسلحة الفتاكة والعنقودية منها تحديداً, وكلام بايدن عن ضرورة توريدها إلى القوات الأوكرانية "وإلاّ سيُهزمون", هل تحاول واشنطن نقل الحرب إلى مستوى قتل البشر بشكل جماعي, هل هو هدفها الحالي, والذي يسبق لجوؤها إلى استخدام الأسلحة النووية ؟

وهذا بطبيعة الحاال يُحتم على واشنطن استغلال الأوضاع الراهنة, وحالة الصين التي لم تحرك قواتها العسكرية بشكلٍ فعلي بإتجاه تايوان حتى الاّن, وروسيا التي لا تزال منخرطة في الحرب على أوكرانيا, وفي الدفاع عن أمنها وأراضيها واقتصادها ومصالحها, وعليه تعتقد واشنطن أنها بصدد فرصة نادرة لإبعاد بكين عن موسكو, حتى لو كان الثمن كثيرٌ من المرواغة وقليل من الوفاء – كعادتها-, ورفع بضعة عقوبات عن بكين  ...

هل تبدو الولايات المتحدة جادة وصادقة ومستعدة لتغييرعلاقاتها مع الصين, ونقلها إلى سياق العلاقات الدولية الصحية والصحيحة, وهل تغامر واشنطن بسلوكها واستراتيجيتها وبتاريخها الأسود, وتتحول إلى دولة إيجابية ذات قيم حقيقية, وتكون قادرة عن الخلي عن لعب دور شرطي العالم الشرير؟.

من الواضح أن زيارة يليلن اختلفت كثيراً عن زيارة بلينكن, وقد كشف رئيس الوزراء الصيني لي تشيانغ، عن تحسن محتمل في العلاقات المتوترة بين بلاده والولايات المتحدة الأمريكية, وعبّر بدبلوماسية ولباقةٍ عاليتين عن لقائه مع الوزيرة الأمريكية, وتحدث عن بزوغ "قوس قزح ما بعد الرياح والعواصف", في إشارةٍ واضحة إلى نجاح اللقاء, وإتجاه العلاقات الصينية الأمريكية نحو التحسن, بدورها دعت يلين إلى إرساء مبدأ "المنافسة السليمة" مع الصين، معربة عن أملها في تجنب الخلافات التي تؤدي إلى توتر العلاقات, وأكدت للسيد لي أن بلادها " تُخطط لمنافسة اقتصادية سليمة", وتبحث عن تعزيز التواصل بين البلدين والعمل من أجل "علاقة مستقرة وبناءة".

كان لا بد لإدارة بايدن من تكليف وزيرة الخزانة بهذه المهمة, لإظهار الجدية الأمريكية من جهة, ولإعطاء الزيارة الأمل بنجاح المسعى الأمريكي, وهذا ما كان ينقص وزير الخارجية الذي وقف في بكين وهو لا يملك القدرة على مناقشة تخفيف حالة العداء, وخصوصاً وأن بلاده أحاطت الصين ومولت برامج وعملاء وخطط تكفي وتتكفل بزعزعة استقرار الصين, ناهيك عن الحشود العسكرية الأمريكية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، وتوسيع وجودها العسكري في الفلبين, وكذلك توسيع أنشطتها الموجهة ضد الصين من خلال تحالفها الرباعي مع الهند واليابان وأستراليا, والثلاثي مع استراليا والمملكة المتحدة (أوكوس).

من الصعب على بكين أن تنزلق في ألاعيب إدارة بايدن, خصوصاً وأنها تدرك بأن الولايات المتحدة سعت لعقود لمنافسة الصين وبلورة عدائها وترجمته أعمالاً عدائية وتهديدات وعقوبات وإشارات مستقبلية عن المواجهة المباشرة في عام 2025, ومع ذلك تبدو بكين على قدرٍ كبير من الحكمة والعقلانية, لإحتواء واشنطن وليس العكس.

ستكشف الأيام القادمة عن حقيقة النوايا الأمريكية, ومسار "الرياح العواصف", التي تحدث عنها رئيس الوزراء الصيني، والتي بزغ منها "قوس قزح" ليمتد من واشنطن إلى بكين, على أمل أن يتحول شعاع سلامٍ دافئ يزيح غيوم الحروب, ويفضي إلى تحسن العلاقات الأمريكية مع كافة أعدائها وخصومها الكثر حول العالم.

م. ميشيل كلاغاصي

16/7/2023   

 

أين ماكرون من العنف والعنصرية ورصاص الشرطة الفرنسية ؟ - م. ميشيل كلاغاصي


 في مشهدٍ أعاد الذاكرة إلى ما تعرّض له جورج فلويد في الولايات المتحدة الأميركية على يد رجال الشرطة الأميركيين، لكنه هذه المرة مشهد باريسي حصري كرّره رجال شرطة العاصمة للمرة الرابعة عشرة منذ بداية العام وحتى اليوم ، حيث قام أحد رجال حاجزٍ مروري للشرطة الفرنسية في نانتير غربيّ باريس، بإطلاق النار من مسافة الصفر على رأس سائق سيارة أجرة ، تبيّن لاحقاً ، أنه الشاب نائل مرزوقي المراهق وصاحب الـ 17 عاماً ومن أصولٍ جزائرية، وادّعت أجهزة الشرطة أنه بقيادته المتهورة، صدم رجال الحاجز بسيارته المستأجرة، وحاول عدم التوقّف، وبأنه لا يحمل رخصة قيادة، وبأن إطلاق النار كان مشروعاً ودفاعاً عن النفس.

لكن ومع انتشار فيديو التقطه أحد السكان المحليّين، تمّ نسف رواية الشرطة، وتبيّن أن السائق كان متوقّفاً ويتحدّث مع رجل الشرطة، لكنه رفض الامتثال كغالبية الشبان، فهدّده الشرطي وقال له: "سأفرغ الرصاص في رأسك"، لكنّ الشاب حاول الانطلاق بالسيارة، فما كان من الشرطي إلا أن أطلق عليه النار وأرداه قتيلاً. وبمجرد انتشار الخبر والفيديو، تحوّلت عدة مناطق في باريس إلى ساحات معارك بمواجهة شرطة مكافحة الشغب، بعدما قام عشرات الشبان الغاضبين بأعمال شغب وبإحراق حاويات النفايات، وعدد من السيارات والمباني، وسرعان ما تسلّل الغضب إلى ضواحٍ أخرى..

لم يتأخّر وزير الداخلية الفرنسية بانتقاد الحادث، وبالإعلان عن توقيف الشرطيين المتورطين في الحادثة، ووضع مطلق النار قيد الاحتجاز، وكذلك بالإعلان عن إصابة 24 شرطياً على خلفية أعمال العنف التي اندلعت بين الشرطة والمحتجين عقب الحادث، وبفتح تحقيقٍ موسّع للوقوف على الحقيقة، واصفاً الصور والفيديوهات على وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي بأنها "صادمة للغاية"، وناشد المحتجين "التزام الهدوء" ، وحثّ الناس على "احترام حزن أسرة الشاب"، ومراعاة "فرضية براءة الشرطة". فيما أقرّ رئيس شرطة باريس، بأن تصرفات الشرطي "تثير التساؤلات"، ومن جهتها طالبت رئيسة الوزراء إليزابيث بورن، السلطات بالكشف عن الحقيقة الكاملة، "لفسح المجال أمام عودة الهدوء".

في الوقت الذي علّق الرئيس إيمانويل ماكرون على الحادث من مدينة مرسيليا التي كان يقوم بزيارتها، وأضاف بتعليقاته سخطاً وغضباً شعبياً جديداً وإضافياً على شخصه وكلامه الإنشائي، الذي رأى فيه الكثيرون محاولة للتنصّل من مسؤوليته الشخصية، فقد كان في مرسيليا ينظّر على الأهالي بكلام نظري بحت، في الحديث عن مشكلة البطالة، وأثبت لهم مرة أخرى من خلال تلميحاته عن الكسل، تحدّيه لشعبه ومحاولة إذلاله، وانفصاله عن الواقع الفرنسي خصوصاً ما يتعلق بطبقة الفقراء، والعاطلين عن العمل، ناهيك عن توقيعه مؤخراً قانون رفع سن العمل التقاعدي بعيداً عن رأي الأغلبية المعنية والمتأثّرة بهذا القرار.

ومن خلال عباراته المنمّقة، حول جريمة قتل الشاب اليافع نائل، صرّح الرئيس ماكرون بأن رجال الشرطة "ملتزمون يومياً بحمايتنا، وبخدمة الجمهورية"، وشكرهم على "أدائهم الأخلاقي، وضرورة احترامه"، واعتبر أن ما حدث بالأمس: "متروك للعدالة لتبيان الحقيقة وتحديد المسؤولية"، مؤكداً أن ما تحتاجه فرنسا في هذه اللحظات هو "الاحترام والهدوء". يبدو أنه لم يسمع عن حزن عائلة الشاب نائل، وكلام جدته، التي قالت للصحافيين: أنا ضد الحكومة، "قتلوا حفيدي، لن أسامحهم أبداً ما حييت".

يبدو أن مواقف ماكرون من مرسيليا، أثارت موجة انتقادات قديمة – جديدة على مواقع التواصل الاجتماعي، فالفرنسيون اعتادوا على الرئيس ماكرون الذي يكثر الكلام، ولا يقرنه بالأفعال، ولا يبحث بجدية عن الحلول الجذرية، لكنه يتهرّب دائماً من المسؤولية الشخصية، ولا يتصرّف كرئيس ومسؤول عن حل الأزمات والمشاكل التي يواجهها الفرنسيون، إن سلوكه ومواقفه الأخيرة في مرسيليا، جعلته ينال نصيبه من انتقاد وتقريع ماتيلد بانو النائبة اليسارية، التي اعتبرت أنّ: "ماكرون أصبح صورة كاريكاتورية لماكرون".

تبدو مواقف وتصريحات وزير الداخلية، ورئيسة الحكومة، ورئيس شرطة باريس، أكثر توازناً واحتراماً لعائلة الشاب المقتول، وللمحتجين والغاضبين، من تلك التصريحات التي أطلقها الرئيس ماكرون من مرسيليا، وسط تضاعف الغضب واتساع رقعته واجتياحه مدناً ومناطق واسعة في فرنسا، على غرار الغضب الذي عمّ شوارع عدد كبير من الضواحي والمدن الفرنسية عام 2005.

تطوّر المشهد بسرعة، وتحوّلت فرنسا إلى ساحة فوضى وعنف ومواجهات مع رجال الشرطة، وأعلنت وزارة الداخلية عن إصابة 249 شرطياً، واعتقال 667 شخصاً، كذلك تمّ الإعلان عن تضرّر 492 مبنى من جرّاء إشعال الحرائق، على وقع أعمال نهب المتاجر والمحال التجارية، وتمّ تسجيل إحراق نحو 2000 سيارة، وهذا يؤكد أن الأمور بدأت تفوق ما حدث عام 2005 بحسب وزارة الداخلية الفرنسية.

كذلك، يذكر أنه في عام 2021 تمّ تسجيل 27756 حالة رفض توقّف السائقين عند الحواجز ونقاط التفتيش وتمّ تسجيل 157 حالة أطلقت فيها الشرطة النار، وهذا يثير التساؤلات حول الرسالة التي أرسلها الشرطي من خلال إطلاق النار على الشاب نائل، مستغلاً سلوكاً أصبح عادياً في فرنسا.

لا يمكن اعتبار ما حصل للشاب نائل أمراً منفرداً ومنفصلاً عن أحداث مشابهة وكثيرة حصلت في فرنسا، فقد قامت الشرطة العام الماضي بقتل 13 شخصاً، تحت عنوان الذريعة نفسها، ورفضهم التوقّف على الحواجز المرورية، ولا يزال يواجه خمسة ضباط شرطة فرنسيون تهماً بالقتل، في وقتٍ تبرّر فيه الشرطة الفرنسية هذه الجرائم، بأنها "تواجه مجتمعاً يزداد عنفه يوماً بعد يوم".

من خلال ارتفاع منسوب العنف والعنف المضاد، وتعرّض رجال الشرطة وآلياتهم للقصف والحرق، هل يمكن الاعتراف بوجود أطراف مسلحة وسط فرنسا، هل يمكن المراهنة على غضب الجاليات الجزائرية والأفريقية والمسلمة، وانتعاش ذاكرتها بالمظالم الفرنسية، هل هو الانتقام؟ وهي عبارة انتشرت بكثافة على الجدران في الشوارع، أم هناك من أراد توجيه الأنظار في هذا الاتجاه؟

إن خطورة ما يحدث في فرنسا، دفع السلطات الفرنسية للإعلان عن تعليق حركة القطارات والحافلات في باريس يومياً اعتباراً من الساعة الـ9 مساءً ولأجل غير مسمى، ولزج أكثر من 40 ألف شرطي، ووحدات القوات الخاصة الحديثة  RAID، GIGN ، BRI، للمرة الأولى منذ إنشائها، على وقع نفاد الرصاص المطاطي لدى وحدات الشرطة، والخطر الذي بدأ يحيط بالشرطة وآلياتهم...

إن دعوات "العدالة" و"الانتقام"، التي ملأت مواقع التواصل الاجتماعي والجدران في الشوارع على حدٍ سواء، وخطورة الأوضاع، والتهديد الذي تعرّض له رجال الشرطة والصحافيين الميدانيّين، دفع كلاً من التجمّع الوطني لمارين لوبان، والجمهوريين من يمين الوسط، للمطالبة بإعلان حالة الطوارئ، في وقت ألمح ماكرون عبر موقعه على تويتر بإمكانية تعليق أو تقييد وسائل التواصل للحد من الانتشار السريع للعنف، الأمر الذي لا يليق بفرنسا، وبالحريات التي لطالما ادّعتها. 

تبدو فرنسا اليوم بحاجة إلى قائد حقيقي وحكومة قوية، وليس إلى غباء إليزابيث بورن، ونفاق وتعالي ماكرون، خصوصاً مع انتشار خبر حضوره ليلة الأربعاء حفلاً موسيقياً للبريطاني الشهير إلتون جون، وإدارة ظهره للعاصمة باريس وهي تحترق، يا له من اختيار "موفّق" لموسيقى بريطانية ليلة احتراق فرنسا.

بات من الواضح أن الرئيس ماكرون يفقد السيطرة على البلاد، وأنه منذ انتخابه رئيساً عام 2017 تسبّب بعدة أزمات، أهمها أزمة السترات الصفراء عام 2018، واحتجاجات إصلاح المعاشات التقاعدية عام 2019، وطريقة تعامله القاسي مع جائحة كورونا، وتصدّره عام 2022 مشهد العداء لروسيا ومواجهتها بالوكالة في أوكرانيا، وإقراره مؤخّراً قانون رفع سن التقاعد من 62 إلى 64 عاماً، إضافة إلى جريمة قتل الشاب نائل، ناهيك عن الوضع الاقتصادي المتردّي ومشكلة البطالة والتضخم والطاقة وغيرها من الأزمات.

قد يستغرب البعض وجود الرئيس الفرنسي بغالبية أوقاته خارج فرنسا، وقيامه بزيارات ولقاءات، وحضوره أو اقتراحاته لعقد قمم تبدأ ولا تنتهي، ألا يشعر الرئيس ماكرون بضرورة تكثيف وجوده داخل بلاده، واهتمامه بمشاكل وصعوبات حياة الفرنسين، ومستقبلهم، وقد استمع أمسِ الأول للكثير الكثير منها في مرسيليا، ووعد المواطنين بتغيير بعض القوانين لحل هذه المشاكل والصعوبات، يا له من وعد!

اليوم، وقد حدث ما حدث، وفقد الشاب نائل حياته، يبقى من المهم أن تُجرى التحقيقات بمهنية وشفافية وبالسرعة الكافية، وبتحليل الفيديو "الشاهد"، وأن تتحلّى فرنسا – ماكرون بالمسؤولية، وبالعدالة، لجهة اتهام الشرطي بجريمة القتل العمد، أو لجهة تأكيد أو نفي فيما إذا كان الشرطي وزميله قد شعرا بالخطر، وبضرورة الدفاع عن النفس، بالدليل القاطع، وهذا يبدو مستحيلاً.

من المعروف أن فرنسا تعاني كغيرها من الدول الأوروبية، من خلافات وصراعات سياسية داخلية، وصعوبات اقتصادية، وبطالة وغير ذلك، لماذا يجد الرئيس ماكرون نفسه واحداً من جوقةٍ أوروبية وأطلسية، تبحث عن التدخّل في الشؤون الداخلية لدول أخرى، إضافة إلى شراسته في دعم نظام كييف النازي في مواجهة موسكو، وبدعوته  لتسريع انضمام أوكرانيا إلى الناتو، بدلاً من صبّ جهوده على التفاوض لوقف الحرب، وما الذي يدفعه لدعم تغيير أنظمة الحكم في دول أخرى بالقوة العسكرية، بذريعة حاجة تلك الدول والشعوب إلى الحرية والديمقراطية.

ألم تصطف فرنسا وراء البروباغاندا الإعلامية المزيّفة، لاتهام رؤساء بعض الحكومات حول العالم بقمع شعوبها، وبإفقارهم، وبتهجيرهم وبقتلهم، لماذا لا يجري ماكرون المقارنة مع عهده الأول والثاني الحالي، ويجد الإجابات حول انخفاض نسب تأييده الشعبي، ولو فعل هذا لأصبح الرئيس الأقوى في القارة العجوز، ولأبعد عن شرطته تهمة التمييز العنصري، والاستهتار، بحياة قاطني الضواحي من الفقراء والمهاجرين الأفارقة، وكذلك لأبعد بلاده عن تهمة التبعيّة والحكم بالوكالة والصبغة العنصرية الأميركية.

م. ميشيل كلاغاصي

7/7/2023

متى ينتهي الهجوم الأوكراني المضاد ؟ - م, ميشيل كلاغاصي

منذ شباط العام الماضي حتى اليوم, لم تستطع كافة أشكال الدعم الغربي تعديل كفة التفوق العسكري والسياسي والإعلامي لصالح القوات الأوكرانية وسلطات كييف, كذلك لم تستطع إقناع أحد بإمكانية تحقيق أي إنتصار أوكراني واضح ومؤثر, بمن فيهم الولايات المتحدة وقيادة الناتو والإتحاد الأوروبي, والعالم الغربي عموماً, إنتصار يكون قادراً على منح الأمل بضرورة استمرار الدعم والقتال, واستمرار الرفض الأوكراني للحوار والتسوية والتفاوض, بضغوط وعراقيل غربية معلنة, لإنهاء المواجهة متعددة الأوجه والأهداف.

وبالرغم من ذلك, علقت حكومة كييف, وبعض الدول الأوروبية اّمالاً جديدة على ما أُطلق عليه "الهجوم المضاد", وبعد الإستعداد الجيد وتلقي كييف مختلف أشكال الدعم بما فيها الأسلحة النوعية, والأموال الباهظة, ناهيك عن الإصطفاف الغربي غير المسبوق ضد روسيا, وبالفعل بدأ الهجوم المضاد في 4 يونيو/حزيران, وتكبدت من خلاله القوات الأوكرانية الخسائر العسكرية والبشرية المؤلمة, ومع ذلك لا زال المشهد يتكرر بشكل يومي, وبدا وكأنه بلا نهاية, الأمر الذي يدفع للتساؤل, إلى متى سيستمر هذا الهجوم الفاشل, وعلى ماذا تراهن حكومة كييف ومن ورائها ؟.

لنعد قليلاً إلى عام 2022, وإلى الأشهر الأولى لبدء العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا, حيث تم رصد إلتفاف غالبية الشعب الأوكراني حول فكرة "الدفاع عن الوطن", ولم يواجه الجيش الأوكراني أية صعوبات لجلب المتطوعين وفي التعبئة لمقاومة "الغزو الروسي", نتيجة تأثر الشارع الأوكراني بالضخ الإعلامي المضلل, وبالتقليل من القدرات العسكرية الروسية, فضلاً عن المبالغة في التقديرات والتوقعات الغربية للتصدي والتحدي, بالإضافة إلى الخطاب عالي النبرة للرئيس الأوكراني وأركان حكومته.

وساهم التراجع الروسي المفاجئ في خريف عام 2022, وتقدم القوات الأوكرانية نحو خاركييف, بالتوازي مع انسحاب القوات الروسية من خيرسون، في دفع معظم المواطنين الأوكران للإعتقاد بأن روسيا وقعت في الفخ, وبأن العقوبات الغربية فعلت فعلها في استنزاف الإقتصاد والإرادة الروسية, الأمر الذي منحهم الشعور بإقتراب النصر.

لكن, ومع خلال الأشهر الأولى لعام 2023, أصيب المجتمع الأوكراني خيبة أملٍ كبيرة, تبخرت معها اّمال الإنتصار, ووجدت القوات الأوكرانية نفسها تخوض معارك دفاعية ضارية على تخوم باخموت, وسرعان ما انتقلت إلى ما بعد باخموت, وسط التقديرات الخاطئة للرئيس زيلينسكي, ووقع ما لم يكن بحسبانه, وأدخل قواته في أتون ما دعي بـ " مفرمة لحم", التي أدت إلى القضاء على أعداد كبيرة من جنوده, وإلى أسر عددٍ اَخر, وبموجة هروب جماعي لأهالي المنطقة بما فيهم الرجال والشبان, بالتوازي مع ارتفاع أصوات جنرالات زيلينسكي حول صعوبات التعبئة وتعويض خسائر الجنود في صفوف القوات الأوكرانية, وتم اللجوء إلى ملاحقة الشبان في الشوارع, وزجهم في المعارك بدون تدريب وأحياناً بدون زي عسكري موحد, في محاولة للتمسك ببعض المواقع على أطراف باخموت.

تبدو الضربة العسكرية القوية التي تلقتها القوات الأوكرانية في باخموت, قد نالت أيضاً من معنويات القوات الأوكرانية والشعب الأوكراني, لكن الإعلام المضلل الموجه, حاول التركيز إمكانية الإنتقام, وتحقيق الإنتصار في الهجوم المضاد, بعد تأمين الألوية المدربة وووصول دفعةً جديدة من الأسلحة الغربية النوعية والحديثة, بما يضمن إلحاق الهزيمة بالقوات "الغازية", وبأن الهجوم الصيفي سيشكل نقطة تحول في المعركة الميدانية, وسيكون واسع النطاق على طول خط المواجهة بكامله.

وبالفعل بدأ الهجوم المضاد في 4 يونيو/حزيران، لكنه سرعان ما تحول إلى مفرمة لحم أخرى، فاقت نتائجها مفرمة باخموت، بعد أن تقهقرت الكتائب والألوية التي عُلقت عليها الآمال، وبدأت تتبخر مع صور الأسلحة الغربية الحديثة المدمَرة, وخصوصاً الدبابات الألمانية الحديثة, التي بدت كعلب كرتونية متفحمة أمام خطوط الدفاع الروسية, الأمر الذي أدى إلى إنهيار الروح القتالية للقوات الأوكرانية وآمال الشعب الأوكراني في النصر, ومن خلال ردة الفعل الشعبي الساخطة, حاول البعض الإعتداء على الجنود العائدين, وانسحبت الشرطة في العديد من المدن الأوكرانية والتي كانت تشارك في عمليات التعبئة.

في ظل هذه الظروف، بات الرئيس الأوكراني في وضعٍ لا يحسد عليه, وسط مقترحات جنرالاته لوقف الهجوم الفاشل, وأقله للحفاظ على القدرات الإحتياطية, وحياة ما تبقى من الجنود، والتحول نحو استراتيجية الدفاع المرن والمناورة، لكسب الوقت لحين وصول الدفعة الجديدة من الدعم والمساعدات الغربية, بما في ذلك الطائرات الحربية المقاتلة، التي تضمن ظهوراً محدوداً للقوات الأوكرانية على خطوط التماس, وبما يضمن تأجيل صورة الإنهيار التام.

ومع ذلك, ولا يزال في أوكرانيا من يعتقدون بحدوث المعجزات, وبأن أوكرانيا ستنتصر، ومنهم من يراهن ضرورة استمرار الصمود والقتال, لحين عقد قمة الناتو القادمة, التي ستحدد النهاية "السعيدة" بقبول عضوية أوكرانيا, أو بالنهاية "الحزينة" للمغامرة الأوكرانية.

من الواضح, أن أوكرانيا لم تصل بعد لإكتشاف حقيقة الولايات المتحدة والناتو والإتحاد الأوروبي, وبأنهم مستمرون لأجل مصالحهم في مواجهة روسيا حتى اّخر أوكراني, وبأنه لن تصل جحافل القوات الأوروبية للدفاع عن أوكرانيا, أو لمؤازرتها في الهجوم المضاد, وبعدم استعدادهم لتدمير دولهم وجعلها ساحات قتال من أجل أوكرانيا, والأهم بأن بحث الأوروبيين عن السلام ووقف الحرب وقبول التفاوض, لا يعني قبول واشنطن بها, فأهدافها تتخطى أوروبا والأوروبيين, وعينها على إحتواء روسيا والصين بأي ثمن, وبمنع إلتقاء معارضي إدارة بايدن في الداخل الأمريكي مع المعارضة الأوروبية لسياساتها الخارجية, بالإضافة إلى أنها لن تمنح موسكو والرئيس بوتين فرصة النصر تحت أي ظرف.

فالولايات المتحدة أطاحت بحليفها بوريس جونسون, الذي جاهر بسعيه لتدمير روسيا وإقتصادها بشكل كامل, بالإضافة إلى علاقته مع الرئيس الأسبق دونالد ترامب ومجموعة النخب ومؤيديه في أمريكا, ولذات الأسباب نالت جورجيا ميلوني الحظوة الأمريكية على حساب غالبية الأطراف السياسية في إيطاليا, وتم الإحتفاظ بماكرون وشولتز مؤقتاً لمعاقبة أوروبا وتحميلها مسؤولية الهزيمة, لحين تبلور القرار الداخلي الأمريكي بتبرئة إدارة بايدن وتحميلها مسؤولية الفشل, وأن الرئيس زيلينسكي لم يظهر من القدرات بما يكفي لهزيمة روسيا, وبتهرب وهروب جنوده من التعبئة وساحات المعارك, ووبأنهم يختارون الأسر على التقدم والنصر, وكل ذلك يأتي على حساب الإستراتيجية الأمريكية لإطالة أمد الحرب, الأمر الذي يحلم به ترامب وكلينتون وبقية الجوقة الجائعة, التي فاتتها الموائد المفتوحة على حساب الأزمة الأوكرانية.

وما بين الجمهوريين والديمقراطيين في الولايات المتحدة, يبقى السؤال متى ستنتهي الأزمة الأوكرانية ؟.

م, ميشيل كلاغاصي

4/7/2023