لطالما اعتبر الكثيرون حول العالم بأن "الدولار" الأمريكي , شكّلَ
على مدى العقود الطويلة سلاحاً مالياً واقتصادياً , لم يقل أهمية عن كافة الأسلحة
العسكرية التقليدية التي استخدمتها الولايات المتحدة في حروبها ومعاركها الباردة
والساخنة على حدٍ سواء , واستطاعت بفضله حكم العالم بأسره , على الرغم من صغر حجم
تكاليف إنتاجه , والتي لا تساوي ثمن الورق أو الحبر الذي يُطبع به.
ورغم كافة المعارك التي خاضها الدولار مقابل منافسيه وخصومه وأعدائه من
العملات , بالإضافة إلى عديد النسكات والإضطرابات التي أصابته , وأحدثت في جدران
قوته خدوشاً وندوباً عميقة , إلاّ أنه ظل محافظاً على وجوده ومكانته الدولية التي
تفوق قيمته الحقيقية , أمام تصاعد مكانة وقوة غير عملات , مع فارق أنه لم يستطع محو
فكرة "إنهياره" من عقول الإقتصاديين والماليين وحتى الناس العاديين.
ففي السنوات الأخيرة ، ضاعف المراقبون توقعاتهم
وتحذيراتهم من الانهيار الحتمي للدولار , وعادت وسائل الإعلام للحديث عن فترات
الركود التي شهدتها الولايات المتحدة منذ بداية السبعينيات ، خصوصاً تلك التي سجل
فيها الدولار إنخفاضاً في قيمته الحقيقية , بالتوازي مع تواتر الحديث عن ترجيج إحتمالية
مواجهة الولايات المتحدة خلال عام 2023 , حالة ركودٍ جديدة ومعدلات تضخمٍ عالية
للغاية , وهذا بدوره أخذ ينعكس بشكلٍ سلبي على حالة الثقة بالدولار في العديد من الدول
, وسط استمرار الولايات المتحدة بإستخدام عملتها كسلاح ضد أعدائها وأصدقائها بدون
تمييز.
تبدو إحتمالية الركود الجديدة , قد تترافق وبتوقعات عديد
الإقتصاديين , بحدوث إنخفاضٍ في قيمة الدولار ، وقد يتسبب ذلك في حدوث اضطرابات مالية
في جميع أنحاء العالم , وهذا بدوره سيشجع على الإستثمار في العملات المنافسة
و"المعادية" للدولار ، وسيؤدي إلى زيادة قيمتها , الأمر الذي لم ولن
ترحب به الولايات المتحدة , ومع ذلك يبدو أن الإضرابات والحروب التي يشهدها العالم
اليوم , وخصوصاً تلك المتعلقة بالنفط والغاز , كشفت تراجع هيمنة الدولار على أسواق
الطاقة الدولية.
ومع تنامي المكانة الإقتصادية للصين , والتي تعد حالياً ثاني
أكبر اقتصاد في العالم ، وإعتمادها على شراء النفط والغاز من روسيا وإيران وفنزويلا
وعدد من البلدان الأفريقية ، ودفع ثمنها باليوان , ومع إعلان الرئيس الصيني شي جين
بينغ مؤخراً عن استعداده لدفع ثمن النفط والغاز المستورد من الدول العربية الخليجية
باليوان الصيني , بات من الصعب على واشنطن التفرد في الملعب الخليجي , وفرض عليها
تقبّل فكرة التعايش مع بكين و"البترو – يوان" , وداخل منظمة أوبك بفضل
امتلاك حلفائها القدامى روسيا وإيران وفنزويلا حوالي 40٪ من احتياطيات النفط فيها ،
وامتلاك حلفائها الجدد في دول مجلس التعاون الخليجي 40٪ أخرى من احتياطيات أوبك ، بينما
تمثل دول مناطق النفوذ الصيني الروسي المشترك الـ 20٪ المتبقية.
وعليه ، يبدو إقدام الصين على دفع أثمان مشترياتها
النفطية باليوان قد تسبب بصداعٍ كبير للولايات المتحدة ، وبدأت تتحسس ضعف وتراجع
هيمنة الدولار والولايات المتحدة عموماً على المستوى العالمي ، وبحدوث تغييراتٍ جذرية
في سوق الطاقة الدولي , وفي أماكن تفردها بالسيطرة منذ عقود طويلة.
وبهدف تعزيز الثقة ومكانة اليوان الصيني , دفعت بكين
بإمكانية التحويل ما بين اليوان والذهب في بورصاتها التجارية , الأمر الذي سيوفر فوائد
اقتصادية ومالية للسياسيين والمستثمرين على حد سواء , بالتوازي مع تراجع إهتمام
المستثمرين حول العالم بسندات الخزانة الأمريكية ، الأمر الذي يسرع عملية "إزالة
الدولرة" في جميع أنحاء العالم , وسط تزايد عدد من المصارف المركزية لبعض
الدول , بتقليص إعتمادها على الدولار , ناهيك عن الاتفاق المبدئي الروسي – الهندي
على الدفع بعملاتها الوطنية في عمليات التبادل التجاري البيني وقف استخدام الدولار
في التسويات التجارية المتبادلة ، والدفع بعملاتهما الوطنية.
بالإضافة إلى استياء عدد من الدول كروسيا والعراق وإيران
وفنزويلا وأفغانستان , من السلوك الأمريكي , واستغلاله الحرب في أوكرانيا , وفرض
العقوبات اللا قانونية وتشديد سياسة الدفع بالدولار ، الأمر الذي هدد مستقبل النظام
المالي العالمي , وفرض نظامٍ أمريكي اقتصادي جديد , بالإضافة إلى ما أثبته الواقع
الدولي , نتيجة سياسة واشنطن وحلفائها في أوكرانيا , المعادية للإقتصاد الروسي
وقطاع النفط والغاز , وبأنها أضرت بالدولار , واستفاد منها الروبل الروسي , وأصبح أحد
أقوى العملات في العالم.
من الواضح أن التغيرات الجذرية التي بدأت تواجه النظام
العالمي الحالي , ومع تكرار ضرباتها واستهدافاتها لنظام الهيمنة الأحادي , والتي أخذت
تتضح شيئاً فشيئاً , لتشكل إنطلاقة اللحظة الأولى التي تشعر فيها الولايات المتحدة
بوجود الصين كمنافس حقيقي , وربما متفوق أيضاً , ويحظى بدعمٍ كاملٍ من روسيا وعديد
الدول حول العالم , وكل من يجتمعون على إعادة تصحيح التاريخ والنظام الدولي
والمنظمة الأممية , وعلى عودة الدولار إلى حدوده الحقيقية , بما يؤكد نهاية مرحلة –
الذروة - للقوة الأمريكية , وبات عليها التخلي
عن استمرار تحويل الدولار إلى سلاح.
م. ميشيل كلاغاصي