من خلال نظرة عامة على عشرات الصراعات والحروب السابقة والحالية
حول العالم , تظهر أهمية مصادر الطاقة النفطية والغازية بكافة أشكالها , وخرائط خطوط
نقلها وأسواقها , بما لا يدع مجالاً للشك بأنها تلعب الدور الرئيسي في تلك الحروب والصراعات,
بما لها من قدرة على تحديد مدى قرب أو بعد الدول عن مركز الصراع , وحاجة الدول للدفاع
عن ثرواتها , وضمان أمنها , وتوثيق علاقاتها الإستراتيجية .
وبسهولة أيضاً يمكن ملاحظة انخراط تركيا في غالبية الصراعات النفطية والطاقة على الساحة
الإقليمية والدولية , على الرغم من عدم إمتلاكها حقولاً واّبار نفطية أو غازية , وتقنيات
الطاقة النووية ، لكنها تملك موقعاً جغرافياً
مميزاً وهاماً , جعل منها بوابةً برية أو جسراً ما بين أوروبا واّسيا , ومنحها مرونةً
بحرية كبيرة للإنتقال والوصول إلى أحواض البحر الأبيض المتوسط وبحر مرمرة وبحر إيجة
والبحر الأسود ، بالإضافة إلى كونها تشكل بوابة العبور البري الرئيسية ما بين الغرب
والشرق والشمال والجنوب.
هذا الموقع الجغرافي , تحول إلى موقعٍ جيوسياسي للطاقة العابرة
من روسيا إلى تركيا إلى دول الإتحاد الأوروبي , نتيجة قرار الرئيس فلاديمير بوتين مؤخراً
, بتحويل تركيا إلى مركزٍ دولي للغاز الروسي , نتيجة الوضع الشائك والمعقد الذي فرضته
الحزم المتتالية للعقوبات الأمريكية والأوروبية على روسيا , والمواجهة العسكرية المباشرة
بالوكالة للناتو والإتحاد الأوروبي مع روسيا في أوكرانيا , بالإضافة إلى لعلاقات روسيا
وتركيا البراغماتية , وعلاقات تبادل المنفعة المشتركة.
بالتأكيد كان لوقع قرار الرئيس بوتين على تركيا مفاجئاً ومفرحاً
, وهي التي لم تتلق من حلفائها الغربيين أي عرضٍ مشابه إن كان على مستوى المشاريع النفطية
– الغازية , أو مساعدة تركيا على بناء محطات للطاقة النووية , طيلة سنوات وجودها في
الناتو وفي المحور الغربي عموماً , في حين كانت روسيا الدولة الوحيدة التي تقدمت نحو
تركيا لبناء أول محطة طاقة نووية تركية.
إن أطماع تركيا في المكاسب القادمة , جعلها تعلن عن تغيير
سياساتها الخارجية التي كانت تعتمد على تحركات الجيش التركي ودعمه للوصول إلى غاياتها
النفطية والغازية , وهذا ما دفعها نحو عديد المشاكل والإستفزازات والصراعات والحروب
, مع غالبية دول الجوار وبعض دول البحر الأبيض المتوسط كـ ليبيا واليونان ومصر , ناهيك
عن دخولها كقوات إحتلال إلى الأراضي السورية , ومحاولاتها المكشوفة لبناء جدر اسمنتية
, وتحويل عمق 30 كم من الأراضي السورية إلى مناطق معزولة , والعرض الذي قدمته إلى ما
تسمى "قوات سوريا الديمقراطية" بحمايتها , والحفاظ على إدارتها الذاتية
, في حال موافقة هذه الأخيرة على سيطرة تركيا على مناطق شرق الفرات , عند خروج وانسحاب
القوات الأمريكية الذي قرره الرئيس ترامب في أواخر عهده , وما تلا ذلك من عمليات عسكرية
داخل الأراضي السورية , تحت عناوين "ضمان الأمن القومي التركي" , ومحاربة
الإرهاب الكردي , في حين أنها كانت تخفي أهدافها في السيطرة على منابع النفط السوري
, وكذلك بالتوغل داخل الأراضي العراقية , للوصول إلى الموصل وتكريت كمناطق نفطية بإمتياز.
إن تغيير السياسة الخارجية التركية افترض بها , العودة بطريقةٍ
أو أخرى , إلى سياسة "صفر مشاكل" مع دول الجوار , وعليه تحاول اليوم مد يدها
نحو سورية وهي الدولة النفطية والغازية الهامة , خصوصاً مع اكتشاف الغاز في السواحل
السورية , حيث تشكل سورية جغرافياً , صلة الوصل ما بين تركيا والعالم العربي والخليجي
تحديداً , وإمكانية ربط خطوط إنتاج خط الغاز العربي ووصوله إلى تركيا مركز الغاز الدولي
كما أراده الرئيس بوتين , والذي دفع أنقرة لإستجرار صادرات بعض الدول في حوض بحر قزوين
كـ أذربيجان , ودول جنوب شرق أوروبا كـ اليونان وبلغاريا وصربيا والمجر والنمسا , لتضاف
إلى الواردات الروسية من دول البلقان عبر أوكرانيا , كـ مولدوفا ورومانيا وبلغاريا
, لتصل في نهاية المطاف إلى تركيا – المركز الدولي للغاز الدولي - , وسط محاولات تركية
لإقناع واشنطن بأنها ستعمل على تخفيض إعتمادها على واردات الإتحاد الروسي أكثر فأكثر.
لم تكتف تركيا بتنويع وارداتها من الغاز , واتجهت نحو البحث
والتنقيب في مياهها الوطنية في البحر الأسود وبحر إيجة والبحر الأبيض المتوسط , وأعلن
الرئيس أردوغان في اّب/ أغسطس عام 2020 - وسط تشكيك البعض - , عن إكتشاف حقل غاز ساكاريا
الكبير بحجم يزيد عن 400 مليار متر مكعب في الجزء الغربي من جرف البحر الأسود , واتبعتها
السلطات التركية في كانون الأول/ ديسمبر 2022 ، بإعلانها اكتشاف حقل غاز بحجم 58 مليار
متر مكعب في الجزء الشرقي من الجرف البحر الأسود.
لم تستطع تركيا بفضل أطماعها وأحلامها , الصمود داخل إطار "تغيير السياسة
الخارجية" , والإلتزام بعلاقات حسن الجوار , حيث تسبب بحثها وتنقيبها عن الغاز
في المناطق المتنازع عليها في غربي قبرص في صيف عام 2020 , بتفاقم العلاقات اليونانية
التركية , وبتوتر العلاقات مع فرنسا , كذلك نجدها قد وضعت إصبعاً لها في عمليات التنقيب
في جرف شرق البحر الأبيض المتوسط مع بعض الدول
كـ مصر وقبرص , والكيان الصهيوني الذي يصرعلى استمرار الإحتلال ونهب الغاز الفلسطيني
.
يبدو أن الغاز أصبح هاجس الدولة التركية , ومحدداً لمدى تعاونها
ومرونتها أو شراستها , في التعامل مع الدول المحيطة , وبالدول الأوروبية والاّسيوية
على حدٍ سواء , وسط محاولات الرئيس أردوغان لفرض تركيا كسوق تركي – دولي مستقل للغاز
والنفط , وضمان زيادة أهميتها الجيوسياسية , ليس كدولة عبور فقط , إنما كدولة مشاركة
بقوة في بيع الغاز الطبيعي للأسواق العالمية , بما فيها السوق الأوروبية.
بالتأكيد كان للإعمال التخريبية - الإرهابية التي تعرضت لها
خطوط أنابيب نورد ستريم 1 و2 الروسية , التأثير الكبير على قرار الرئيس بوتين بتحويل
تركيا إلى مركز دولي للغاز الروسي , ليس فقط نتيجة الغدر الأوروبي , بل لأجل ما تحاول
تركيا تقديم نفسها لروسيا وإقناعها بأنها دولة شراكةٍ موثوقة ، بغض النظر عن الأزمة
الأوكرانية شديدة التعقيد.
تبدو روسيا مضطرة لقبول مخاطر نقل الغاز إلى أوروبا عبر تركيا
, لتستطيع تعويض تخفيض إعتمادها على نقل الغاز الروسي عبر أوكرانيا , وأقله لحين إنتهاء
المواجهة الأوروبية – الأطلسية بالوكالة مع روسيا التي فرضتها واشنطن , كذلك يبدو مهماً
لدول الجوار التركي أن تتغير السياسة الخارجية التركية , وبأن تحل علاقات حسن الجوار
والتعاون محل الخلافات التصعيد والتوتر , وهذا يفترض بتركيا أن تقدم لهم المزيد من
الخطوات التي تدعم إتجاهها نحو التفاهم والحوار , ودعم أقوالها بالأفعال , وهذا ما
عبر الرئيس بشار الأسد عنه أمس الأول أثناء استقباله ألكسندر لافرنتييف , المبعوث الخاص
للرئيس الروسي فلاديمير بوتين , بحديثه عن اشتداد المعارك السياسية والإعلامية , والتي
تتطلب اليوم "ثباتاً ووضوحاً أكثر في المواقف السياسية" ، واعتبر الرئيس
الأسد أن هذه اللقاءات وكي "تكون مثمرة" ، لا بد لها من أجل الوصول إلى الأهداف
والنتائج الملموسة التي تريدها سورية , و"أن تنطلق من الثوابت والمبادئ الوطنية
للدولة والشعب المبنية على إنهاء الإحتلال ووقف دعم الإرهاب".
المهندس: ميشيل كلاغاصي
No comments:
Post a Comment