Saturday, January 21, 2023

السياسة الخارجية التركية وعلاقتها بخطوط النفط والغاز - م. ميشيل كلاغاصي


من خلال نظرة عامة على عشرات الصراعات والحروب السابقة والحالية حول العالم , تظهر أهمية مصادر الطاقة النفطية والغازية بكافة أشكالها , وخرائط خطوط نقلها وأسواقها , بما لا يدع مجالاً للشك بأنها تلعب الدور الرئيسي في تلك الحروب والصراعات, بما لها من قدرة على تحديد مدى قرب أو بعد الدول عن مركز الصراع , وحاجة الدول للدفاع عن ثرواتها , وضمان أمنها , وتوثيق علاقاتها الإستراتيجية . 

وبسهولة أيضاً يمكن ملاحظة انخراط  تركيا في غالبية الصراعات النفطية والطاقة على الساحة الإقليمية والدولية , على الرغم من عدم إمتلاكها حقولاً واّبار نفطية أو غازية , وتقنيات الطاقة النووية ، لكنها  تملك موقعاً جغرافياً مميزاً وهاماً , جعل منها بوابةً برية أو جسراً ما بين أوروبا واّسيا , ومنحها مرونةً بحرية كبيرة للإنتقال والوصول إلى أحواض البحر الأبيض المتوسط وبحر مرمرة وبحر إيجة والبحر الأسود ، بالإضافة إلى كونها تشكل بوابة العبور البري الرئيسية ما بين الغرب والشرق والشمال والجنوب.

هذا الموقع الجغرافي , تحول إلى موقعٍ جيوسياسي للطاقة العابرة من روسيا إلى تركيا إلى دول الإتحاد الأوروبي , نتيجة قرار الرئيس فلاديمير بوتين مؤخراً , بتحويل تركيا إلى مركزٍ دولي للغاز الروسي , نتيجة الوضع الشائك والمعقد الذي فرضته الحزم المتتالية للعقوبات الأمريكية والأوروبية على روسيا , والمواجهة العسكرية المباشرة بالوكالة للناتو والإتحاد الأوروبي مع روسيا في أوكرانيا , بالإضافة إلى لعلاقات روسيا وتركيا البراغماتية , وعلاقات تبادل المنفعة المشتركة.

بالتأكيد كان لوقع قرار الرئيس بوتين على تركيا مفاجئاً ومفرحاً , وهي التي لم تتلق من حلفائها الغربيين أي عرضٍ مشابه إن كان على مستوى المشاريع النفطية – الغازية , أو مساعدة تركيا على بناء محطات للطاقة النووية , طيلة سنوات وجودها في الناتو وفي المحور الغربي عموماً , في حين كانت روسيا الدولة الوحيدة التي تقدمت نحو تركيا لبناء أول محطة طاقة نووية تركية.

إن أطماع تركيا في المكاسب القادمة , جعلها تعلن عن تغيير سياساتها الخارجية التي كانت تعتمد على تحركات الجيش التركي ودعمه للوصول إلى غاياتها النفطية والغازية , وهذا ما دفعها نحو عديد المشاكل والإستفزازات والصراعات والحروب , مع غالبية دول الجوار وبعض دول البحر الأبيض المتوسط كـ ليبيا واليونان ومصر , ناهيك عن دخولها كقوات إحتلال إلى الأراضي السورية , ومحاولاتها المكشوفة لبناء جدر اسمنتية , وتحويل عمق 30 كم من الأراضي السورية إلى مناطق معزولة , والعرض الذي قدمته إلى ما تسمى "قوات سوريا الديمقراطية" بحمايتها , والحفاظ على إدارتها الذاتية , في حال موافقة هذه الأخيرة على سيطرة تركيا على مناطق شرق الفرات , عند خروج وانسحاب القوات الأمريكية الذي قرره الرئيس ترامب في أواخر عهده , وما تلا ذلك من عمليات عسكرية داخل الأراضي السورية , تحت عناوين "ضمان الأمن القومي التركي" , ومحاربة الإرهاب الكردي , في حين أنها كانت تخفي أهدافها في السيطرة على منابع النفط السوري , وكذلك بالتوغل داخل الأراضي العراقية , للوصول إلى الموصل وتكريت كمناطق نفطية بإمتياز.

إن تغيير السياسة الخارجية التركية افترض بها , العودة بطريقةٍ أو أخرى , إلى سياسة "صفر مشاكل" مع دول الجوار , وعليه تحاول اليوم مد يدها نحو سورية وهي الدولة النفطية والغازية الهامة , خصوصاً مع اكتشاف الغاز في السواحل السورية , حيث تشكل سورية جغرافياً , صلة الوصل ما بين تركيا والعالم العربي والخليجي تحديداً , وإمكانية ربط خطوط إنتاج خط الغاز العربي ووصوله إلى تركيا مركز الغاز الدولي كما أراده الرئيس بوتين , والذي دفع أنقرة لإستجرار صادرات بعض الدول في حوض بحر قزوين كـ أذربيجان , ودول جنوب شرق أوروبا كـ اليونان وبلغاريا وصربيا والمجر والنمسا , لتضاف إلى الواردات الروسية من دول البلقان عبر أوكرانيا , كـ مولدوفا ورومانيا وبلغاريا , لتصل في نهاية المطاف إلى تركيا – المركز الدولي للغاز الدولي - , وسط محاولات تركية لإقناع واشنطن بأنها ستعمل على تخفيض إعتمادها على واردات الإتحاد الروسي أكثر فأكثر.

لم تكتف تركيا بتنويع وارداتها من الغاز , واتجهت نحو البحث والتنقيب في مياهها الوطنية في البحر الأسود وبحر إيجة والبحر الأبيض المتوسط , وأعلن الرئيس أردوغان في اّب/ أغسطس عام 2020 - وسط تشكيك البعض - , عن إكتشاف حقل غاز ساكاريا الكبير بحجم يزيد عن 400 مليار متر مكعب في الجزء الغربي من جرف البحر الأسود , واتبعتها السلطات التركية في كانون الأول/ ديسمبر 2022 ، بإعلانها اكتشاف حقل غاز بحجم 58 مليار متر مكعب في الجزء الشرقي من الجرف البحر الأسود.

لم تستطع تركيا بفضل أطماعها  وأحلامها , الصمود داخل إطار "تغيير السياسة الخارجية" , والإلتزام بعلاقات حسن الجوار , حيث تسبب بحثها وتنقيبها عن الغاز في المناطق المتنازع عليها في غربي قبرص في صيف عام 2020 , بتفاقم العلاقات اليونانية التركية , وبتوتر العلاقات مع فرنسا , كذلك نجدها قد وضعت إصبعاً لها في عمليات التنقيب في جرف شرق البحر الأبيض المتوسط  مع بعض الدول كـ مصر وقبرص , والكيان الصهيوني الذي يصرعلى استمرار الإحتلال ونهب الغاز الفلسطيني . 

يبدو أن الغاز أصبح هاجس الدولة التركية , ومحدداً لمدى تعاونها ومرونتها أو شراستها , في التعامل مع الدول المحيطة , وبالدول الأوروبية والاّسيوية على حدٍ سواء , وسط محاولات الرئيس أردوغان لفرض تركيا كسوق تركي – دولي مستقل للغاز والنفط , وضمان زيادة أهميتها الجيوسياسية , ليس كدولة عبور فقط , إنما كدولة مشاركة بقوة في بيع الغاز الطبيعي للأسواق العالمية , بما فيها السوق الأوروبية.

بالتأكيد كان للإعمال التخريبية - الإرهابية التي تعرضت لها خطوط أنابيب نورد ستريم 1 و2 الروسية , التأثير الكبير على قرار الرئيس بوتين بتحويل تركيا إلى مركز دولي للغاز الروسي , ليس فقط نتيجة الغدر الأوروبي , بل لأجل ما تحاول تركيا تقديم نفسها لروسيا وإقناعها بأنها دولة شراكةٍ موثوقة ، بغض النظر عن الأزمة الأوكرانية شديدة التعقيد.

تبدو روسيا مضطرة لقبول مخاطر نقل الغاز إلى أوروبا عبر تركيا , لتستطيع تعويض تخفيض إعتمادها على نقل الغاز الروسي عبر أوكرانيا , وأقله لحين إنتهاء المواجهة الأوروبية – الأطلسية بالوكالة مع روسيا التي فرضتها واشنطن , كذلك يبدو مهماً لدول الجوار التركي أن تتغير السياسة الخارجية التركية , وبأن تحل علاقات حسن الجوار والتعاون محل الخلافات التصعيد والتوتر , وهذا يفترض بتركيا أن تقدم لهم المزيد من الخطوات التي تدعم إتجاهها نحو التفاهم والحوار , ودعم أقوالها بالأفعال , وهذا ما عبر الرئيس بشار الأسد عنه أمس الأول أثناء استقباله ألكسندر لافرنتييف , المبعوث الخاص للرئيس الروسي فلاديمير بوتين , بحديثه عن اشتداد المعارك السياسية والإعلامية , والتي تتطلب اليوم "ثباتاً ووضوحاً أكثر في المواقف السياسية" ، واعتبر الرئيس الأسد أن هذه اللقاءات وكي "تكون مثمرة" ، لا بد لها من أجل الوصول إلى الأهداف والنتائج الملموسة التي تريدها سورية , و"أن تنطلق من الثوابت والمبادئ الوطنية للدولة والشعب المبنية على إنهاء الإحتلال ووقف دعم الإرهاب".

المهندس: ميشيل كلاغاصي

14/1/2023 

No comments:

Post a Comment