مع اقتراب الذكرى الأولى لإنطلاقة العملية العسكرية الروسية
الخاصة – المحدودة بأهدافها المعلنة , لحماية الأمن القومي الروسي , وحماية المواطنين
الروس الذين يتعرضون للمجازر والقصف المدفعي والتعذيب منذ عام 2014 على الأراضي الأوكرانية
, والتي حولتها الولايات المتحدة إلى مواجهة مباشرة مع روسيا , وعاشت بفضلها عشرات
الدول حول العالم وتحديداً في أوروبا , عاماً قاسياً , حمل من التداعيات والنتائج الأولية
, كمّاً هائلاً من الخطورة والإنقسام , ظهرت فيه نوايا دول الخندق الأول كفرنسا وبريطانيا
وبولندا وألمانيا , والأحلاف السياسية والعسكرية على حقيقتها , بما لم يسبق لها أن
مرت بأزمنة ولحظات مشابهة منذ عقود , وأظهرت بشكلٍ فاضح , ما أعلنته صراحةً الولايات
المتحدة والمملكة المتحدة والإتحاد الأوروبي وكذلك حلف الناتو, وكشفت حقيقة مخططها
واستخدامها أوكرانيا كميدان وساحة للمواجهة مع روسيا , والتفرد بها بعد عزلها أو إبعادها
عن حلفائها الإستراتيجيين , بهدف "تدمير إقتصادها" و"تقسيمها"
والإطاحة بزعامة الرئيس فلاديمير بوتين , لكن قساوة وضراوة المواجهة والمعارك , العسكرية
والإعلامية والإقتصادية والإستخبارية و....إلخ , والنتائج العسكرية والسياسية والإقتصادية
والإجتماعية , الكارثية خصوصاً في صفوف الفريق الغربي والأوكراني , خلال أشهر المواجهة
الـ /11/ الماضية , جعلها تبدو وكأنها عشر سنوات , وبات الكثيرين حول العالم يفكرون
في كيفية وإمكانية وقف الحرب , والإتجاه نحو التفاوض المباشر , والمراهنة على تقاربٍ
ما , وإيجابيةٍ ما , في العلاقات الروسية الأمريكية , على أمل حصول التفاهم والإتفاق
على حلولٍ منصفة ومناسبة.
على الرغم من استمرار المواجهة حتى نهاية العام وبداية العام
الجديد , إلاّ أنه ومن خلال طبيعة البشر التفاؤلية دائماً , خصوصاً في فترة أعياد الميلاد
ورأس السنة , راهن البعض على بعض التفاؤل بشأن العلاقات الروسية الأمريكية , في وقتٍ
يُعتقد فيه أن بعض التحولات قد بدأت بالحدوث فعلياً بين موسكو وواشنطن.
حيث التقى مؤخراً , رئيس جهاز المخابرات الخارجية الروسي
، سيرغي ناريشكين ، مدير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (سي.آي.إيه) وليام بيرنز،
في العاصمة التركية , وناقشا خطر استخدام الأسلحة النووية في أوكرانيا وعدد من القضايا
الهامة , وعلى إثر هذا اللقاء ، تمت عملية تبادل للأسرى , شملت لاعبة كرة السلة الأمريكية
بريتني غرينر, ورجل الأعمال الروسي فيكتور بوت ، الذي سبق ووصفته الولايات المتحدة
بأنه من أكبر تجار الأسلحة في العالم , ورفضت إطلاق سراحه طيلة 14عاماً , وسط أجواء
تفاؤلية بعملية تبادلٍ أخرى , يطلق فيها سراح الجاسوس الأمريكي بول ويلان , مقابل إطلاق
أحد المواطنين الروس الموجودين في السجون الأمريكية أو الألمانية.
تبدو الأجواء مشجعة على قراءةِ مشهدٍ مختلف للقادم من الأيام
, بالتوازي مع تصريحاتٍ أمريكية تؤكد عدم حاجتها للصدام مع روسيا في أوكرانيا , وبأنها
"غير مستعدة لبدء الحرب العالمية الثالثة لتحقيق رغبات حكومة كييف".
يمكن قراءة بعض الإيجابية والرغبة المشتركة بين الروس والأمريكيين
, للحفاظ على الحد الأدنى من الاتصالات والعلاقات , وبأنهما لا يسعيان إلى تصعيد المواجهة
العسكرية إلى مستوياتٍ الخطورة التدميرية القصوى , ومع ذلك ، يبدو أن عملية تسوية التناقضات
والخلافات الثنائية ، وإيجاد حلٍ للصراع , لا تزال بعيدة المنال.
وبالتالي ، يرى الروس أن الحل الدبلوماسي الوحيد الممكن الذي
يضمن عدم حدوث حرب نووية , لا بد وأن يكون بمثابة حل وسط يضمن حصول موسكو على قائمة
المقترحات والضمانات الأمنية التي قدمها الرئيس بوتين إلى الولايات المتحدة العام الماضي
, ورفضتها واشنطن , تحت ذرائع عدة منها , أن المقترحات تتعلق بمعايير نظام الأمن الأوروبي
, وبأنها لا تستطيع بمفردها وبشكلٍ أحادي تحديد صلاحية تلك المقترحات , من الواضح أن
واشنطن تتمسك بحرية تقدم وتوسع الناتو شرقاً , ورمي "شباكها" حتى في الفضاء
الروسي.
كانت ولا زالت مهمة موسكو صعبة ومعقدة , لتغيير "القواعد"
ما بعد نهاية الحرب الباردة وحتى اليوم ، بفضل تعنت نظام الأمن الأوروبي , واستمرار
إعتماده على توسيع هيمنة الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي , في وقتٍ كانت المقترحات
الروسية محقة وضرورية بالنسبة لروسيا , ومفيدة للغرب , طالما أنها ستضمن تحويل أوروبا
إلى فضاء للأمن والتعاون المشترك في إطار النظام الأمني الجديد ، والتي ستستفيد حتماً
من خفض مستوى الهواجس والمخاوف من الصدام مع دول منظمة الأمن الجماعي , من خلال الإبتعاد
السلمي والهادئ عن فضاء ما بعد الإتحاد السوفيتي , بضمانة روسيا الإتحادية , الأمر
الذي سيخفف من عدائية الناتو لروسيا .
ومع ذلك ، رفضت الولايات المتحدة المقترحات الروسية , بما
يؤكد أن تصويبها أهدافها ليس على منظمة الأمن الجماعي , بل على روسيا تحديداً , لإزاحتها
والتفرد بالسيطرة على الفضاء الأوروبي , وتحديداً فضاء الإتحاد الأوروبي , الذي يخلو
تماماً من منافسين حقيقيين للولايات المتحدة , وعليه لم تجد واشنطن بداً من تضخيم صورة
موسكو وإظهارها كتهديد جدي وحقيقي لأوروبا بأسرها.
تبدو المقترحات الروسية , بما فيها الضمانات الأمنية المقدمة
للأمريكيين , تشكل الفرصة الأخيرة للتوصل إلى اتفاق , كي يكون الحوار والتفاوض بعيداً
عن احتمالية استخدام الأسلحة النووية , وبقائه مقيداً ببنود وشروط الإستراتيجية الدفاعية
لروسيا.
تبدو واشنطن وحلفائها في بروكسل والناتو , عاجزين عن تحديد
استراتيجيتهم , لإستمرار المواجهة بلا أفق , أو لإتخاذ القرار حول قبول التفاوض , وتحديد
"من يجب عليه أن يُهزم" , هل هي أوكرانيا , وهذا سيتيح لهم تقديم التنازلات
على حسابها , أم الإبقاء عليها في وضعٍ محايد ورفض انضمامها إلى الناتو , أم الإصرار
على "سحق موسكو وإقتصادها", وإلحاق بها "الهزيمة الإستراتيجية".
يبدو من السخيف , تعليق الأمل الأمريكي – الغربي , على أي
تقدمٍ أو إخفاقٍ أو إنسحابٍ عسكري روسي , من بعض المناطق في أوكرانيا , وهذا بدوره
يدفعهم نحو استمرار التمويل ونقل السلاح إلى حكومة كييف , والإهتمام بزيادة كفائته
النوعية , وبتفجير أنابيب نورد ستريم 1 و2 , وتحديد سقف الأسعار, وغيرها من الخطوات
التائهة.
وحتى اللحظة , لم تتوصل حكومة كييف , ودول الإتحاد الأوروبي
, إلى إكتشاف حقيقة "السعادة" الأمريكية , بالأوضاع الحالية , وبإستمرار
إنتقال المال الأوروبي إلى الخزائن الأمريكية , وأن الحل الوحيد يكمن في إجبار سيدهم
الأمريكي الجلوس على طاولة الحوار والتفاوض مع روسيا , ومنحها ما تريد , ورمي الصبي
والمهرج الأوكراني وحكومته النازية , وعزلهم وإعلان هزيمتهم ووقف دعمهم , وإلاّ فالمواجهة
و الحرب العالمية بالوكالة بين روسيا والغرب ستستمر , وأن الرهان على تحسن العلاقات
الروسية الأمريكية , لن يجبر واشنطن على منح الأوروبيين جزءاً من "الكعكة".
م. ميشيل كلاغاصي
No comments:
Post a Comment