Sunday, July 18, 2021

إردوغان في ميزان المصالح الأمريكية - م. ميشيل كلاغاصي

من السذاجة بمكان اعتبار السياسة الخارجية التركية خلال العقدين الماضيين، وتحديداً مع وجود الرئيس التركي رجب طيب إردوغان وحزب "العدالة والتنمية" في السلطة، نابعة من "براعتهم" في اختيار الطريق الصعب والشائك الذي يسلكونه، والذي لا يخلو من المغامرة والمراهنة والاعتماد الرئيسي على تحرك الجيش التركي خارج الحدود؛ تلك السياسة التي جعلت تركيا دولةً مارقة وخارجة عن القانون الدولي، من دون أن تتعرض لمساءلة دولية وقانونية من مجلس الأمن والأمم المتحدة، ومن الدول الكبرى القادرة على لجمها وإيقافها عن الانتهاكات التي تقوم بها لخرق سيادة بعض دول الجوار، أو تلك البعيدة عن حدودها، ونطرح السؤال: من هو المذنب الحقيقي؛ العبد أم السيد؟ السكين أم اليد التي تحملها؟

قبيل القمة الأميركية التركية التي عُقِدت في بروكسل بتاريخ 14 حزيران/يونيو الماضي، وضع الرئيس التركي آماله على كسر الجمود والسلبية التي طغت على العلاقات بين البلدين مؤخراً، وخصوصاً مع وصول الرئيس جو بايدن إلى البيت الأبيض، فقد هلَّلت الصحافة التركية للقمة بشكل غير مسبوق، فيما وصف الرئيس التركي اللقاء بأنه "فرصة للتعاون المثمر والعمل المشترك الذي ستقوم به الدولتان في المناطق التي تتطلب تعاوناً فعالاً، وأنه يمكن حل جميع المشاكل في العلاقات بين تركيا والولايات المتحدة". يبدو أنه كان يقصد الملف الأفغاني ودخول تركيا على خط الصراع العسكري القادم هناك.

وعلى قاعدة بقاء الحال من المحال، تغيرت لهجة الإعلام التركي في غضون أسبوعين، وبدأ الحديث عما سمي "منصة مشروع الديمقراطية التركية لنشر الدعاية المعادية لتركيا"، والتي تضم "جون بولتون، وجيب بوش، شقيق الرئيس الأميركي السابق جورج دبليو بوش، ووزير الخارجية الإيطالي السابق جوليو أغاتا"، إذ يرى البعض في تركيا أن المشروع يستهدف إطاحة القيادة التركية، حتى لو تسبب ذلك بالفوضى وبزعزعة استقرار البلاد.

ومع اقتراب ذكرى الانقلاب الفاشل في 15 تموز/يوليو، استغلَّت صحيفة "صباح" التركية المناسبة لتقول إن "النخب الأميركية "فعلت كلّ شيء لإطاحة إدارة الرئيس إردوغان"، وإنّه "سيتم استخدام أعضاء في منظمة غولن الإرهابية مرة أخرى لتحقيق الأهداف نفسها"، في نهج مماثل لاستخدام المعارض الروسي أليكسي نافالني، وخصوصاً مع استمرار حملة الاعتقالات الداخلية لـ"المتورطين" في محاولة الانقلاب، الأمر الذي سيتيح لأميركا والاتحاد الأوروبي اتخاذ بعض الإجراءات ضد الحكومة التركية تحت ستار "حقوق الإنسان".

إضافةً إلى ذلك، ورداً على اعتراف بايدن بـ"الإبادة الجماعية للأرمن"، وعلى وضع تركيا في لائحة "الدول المشاركة في تجنيد الأطفال"، ازداد عدد التقارير المنشورة في الصحافة التركية، والتي "تنتقد سياسات الولايات المتحدة بدعم المنظمات الإرهابية واستخدامها لأغراضها الخاصة، وبأنها تتجاهل تركيا"؛ العضو الوحيد الذي يقاتل "داعش" في "التحالف الأميركي لمكافحة الإرهاب"، وفق تقارير الصحافة التركية.

تدرك تركيا – إردوغان جيداً أن الرئيس بايدن لم يكن ليوفر منذ سنوات مناسبة لانتقاد الأداء التركي والتعبير عن دعمه لتغيير القيادة التركية، حتى قبل حملته الرئاسية وأثناءها، وقال سابقاً: "يجب عزل تركيا في شرق البحر المتوسط"، ودعا إلى "دعم المعارضة الداخلية" (أحزاب المعارضة الكردية) والاستفادة من بعض عناصر القيادة التركية الحالية لـ"هزيمة إردوغان".

هل تسعى إدارة بايدن لإطاحة حكومة إردوغان، عبر دفعها إلى أداء دورٍ عسكري قيادي في الساحة الإقليمية والدولية؟ وهل يكون ثمن بقاء إردوغان على رأس السلطة إقحام الجيش التركي في كل الصراعات الإقليمية والدولية، ويترتب عليه خوض المعارك في العراق وسوريا وليبيا والسودان وأفريقيا وأفغانستان بتكليفٍ أميركي، والأصح بأوامر أميركية؟ وإلى أي مدى ستمضي واشنطن في استغلال جشع وأطماع تركيا والرئيس إردوغان والعثمانية الجديدة؟

لن نكشف سراً في الحديث عن تركيا الدولة الأطلسية وصاحبة الموقع الاستراتيجي، وفي القول إنها تحتل المرتبة الثانية في تشكيل أكبر خزان عسكري لحلف الناتو، وإنها صاحبة العلاقات الاستراتيجية مع الكيان الإسرائيلي وذراعه العسكرية لمحاصرة الشرق الأوسط ومياهه ونفطه وثرواته، وتشكل إحدى أذرع الكماشة لتطويق سوريا والمقاومة اللبنانية والضغط على العراق وإيران وروسيا وغيرها من الدول، فهل تستغني واشنطن عن أداتها التركية؟ وهل تبدو مهتمةً بجلب رئيسٍ تركي جديد مسالم وناعم الوجه؟

كذلك، لا نكشف سراً إذا قلنا إن تركيا تؤدي دوراً رئيسياً في الضغط على الدول الأوروبية لصالح الولايات المتحدة، وباتت تشكل تهديداً كبيراً لكلّ الدول والأنظمة العربية والأفريقية والآسيوية، الأمر الذي يدفع روسيا ودول المحيط الأوراسي والصين والأوروبيين والعرب وغيرهم إلى خطب ودها على حساب مجابهتها، وقبول توسيع نفوذها السياسي والعسكري والاقتصادي في البحر الأبيض المتوسط والبحر الأسود ومضيق البوسفور، وخططها لتعديل الجغرافيا الطبيعية والسياسية والعسكرية والاقتصادية للمنطقة، من خلال بناء قناة إسطنبول والتحكم في مضيق الدردنيل؟

لا يمكن النظر إلى المظهر الخارجي للعلاقات الأميركية التركية من دون مراقبة السياسات الفعلية لأنقرة واعتمادها على إيديولوجية جماعة الإخوان المسلمين التركية العثمانية والطورانية، وعلى إخوان الدرجة الثانية في الفرع العربي للجماعة، لاستحضار المقاتلين المأجورين ورفد الجيش التركي بـ"الإرهابيين" الذين يعملون وفق أجندة استخباراتها، ويقاتلون في أي أرضٍ تختارها، ويُقتلون وتتم تصفيتهم عندما تدعو الحاجة.

بات من الواضح لجوء الولايات المتحدة إلى استخدام تركيا أداةً بالوكالة وعصا غليظة لحل المشاكل الجيوسياسية التي تواجهها، من خلال حاجتها الماسّة إلى جعلها رقماً صعباً في لعبتها المزدوجة الخفية، عبر توريطها وتوريط إردوغان شخصياً في صراعاتها ومخططاتها لتحقيق أهدافها وإعادة رسم الخرائط العالمية؟

المهندس: ميشيل كلاغاصي

18/7/2021


Monday, July 12, 2021

حتمية خروج القوات الأمريكية من سوريا والعراق - م. ميشيل كلاغاصي


تحتل الولايات المتحدة الأمريكية المرتبة الأولى عالمياً في نشر وتواجد قواعدها وجنودها حول العالم , وتستفيد من تواجدهم سواء تم تكليفهم بمهام تحت عنوان فرض النفوذ والهيمنة , أو بمهام قتالية ساخنة , وهذا يخضع لحساباتها في شن الحروب أو لشكل تدخلها العسكري اللاشرعي في شؤون الدول , ومما لا شك فيه بأنها لا تقحم قواتها العسكرية في حروبٍ تعتقدها خاسرة مسبقاً بشكل حسابي , ولا يمكنها تحمّل تبعات مقتل جنودها خارج حدودها باّلاف الأميال , ناهيك عن التكاليف الباهظة التي تتطلبها الحروب .

إن تواجد القوات الأمريكية في الشرق الأوسط , من خلال التمركز والقيام بمهام دفاعية وهجومية ولوجستية , جاء ليحقق حزمة كبيرة من الأهداف السياسية والعسكرية والإقتصادية , وفي الوقت الذي تبدأ فيه واشنطن بمناقشة جدوى بقاء قواتها في الشرق الأوسط , أو رحيلها , والثمن الذي يتعين عليها دفعه مقابل عواقب قرار إنسحابها منه, يدفعنا للسؤال , هل حققت جميع أهدافها , ولم يعد لها مهام مستقبلية في المنطقة , وهل هي جادة في الخروج من قلب الشرق الأوسط ؟.

يبدو أن الطبيعة البراغماتية للسياسة الخارجية الأمريكية , دفعتها نحو إعادة تقييم وجودها العسكري , من خلال فشلها في تحقيق غالبية أهدافها , وانعكاس بعض النتائج سلباً على ميزان الربح والخسارة الأمريكي الإجمالي , وباتت تفكر بالحفاظ على مكاسبها , وبإغلاق العديد من قواعدها العسكرية المنتشرة في جميع أنحاء الشرق الأوسط وسحب الأساطيل البحرية غير الضرورية المتمركزة في دول الخليج العربي, وبإستبدال أدوارها العسكرية بأدوار سياسية وإقتصادية , من خلال هواجس مزعجة , كفضح هزائمها , أو لمجرد التفكير بمن سيحل محلها ويملئ الفراغ.    

وخلال العقدين الأخيرين , قاتلت أمريكا بشكل مباشر أو عبر دعم حلفائها وأدواتها في الشرق الأوسط , وتكبدت تكاليف باهظة , ولم تستطع الفوز بإحلال الإستقرار أو السلام على طريقتها ووفق شروطها , وعلى العكس تماماً فقد فازت بتضاعف أعداد أعدائها , وبتعريض قواتها للمخاطر في عدة دول كالعراق وسوريا ( قاعدة عين الأسد , وقاعدة حقل العمر , وقاعدة كونيكو).

وعلى ما يبدو أنها حررت نفسها ممن يعارضون إنسحابها من الشرق الأوسط , بداعي بقائها لأجل حمايتهم , كإسرائيل ودول الخليج وميلشيات "قسد" وغيرهم , والتي استخدمت لأجل ذلك عناوين مزيفة , كمحاربة تنظيم "داعش" , وضمان عدم انتشار الأسلحة الكيميائية وأسلحة الدمار الشامل , وحماية اّبار النفط السوري , وحماية الحريات وحقوق الإنسان , ولحماية الأمن الوطني الأمريكي , ولمنع إيران من الحصول على القنبلة النووية , ولردع أحزاب وفصائل المقاومة اليمنية والعراقية واللبنانية والفلسطينية , وكل من تصنفه منظمة إرهابية على هواها , وعشرات الذرائع الواهية.

لكنها أخفت وراء ذرائعها حقائق كبرى , تقف وراء التفكير الجدي بإنسحابها من الشرق الأوسط , فالدول العربية وبعض دول المنطقة كإيران على سبيل المثال , وعلى الرغم من السعي الأمريكي الخبيث لزرع بذور الكراهية وإثارة الفتن , لا تزال ترغب بإقامة أفضل العلاقات فيما بينها , وتبحث عن الإستقرار والإزدهار , ويمكن بسهولة احتواء المشاكل ما بين كافة الدول العربية وإيران التي تستحق وتستطيع مدّ دول المنطقة بالعلوم والتكنولوجيا والأدوية ولقاحات الكورونا ...إلخ , وتبادل التجارة البينية والسياحة .....

بالإضافة إلى ذلك ، فإن الوجود الأمريكي في الشرق الأوسط لم يستطيع حماية "إسرائيل" وتفادي هزيمتها في حرب تموز 2006 ، ولم يمنع "حماس" من قصف المناطق والمدن الإسرائيلية من الشمال إلى الجنوب في حرب "سيف القدس" , كذلك لم يستطيع منع الجيش العربي السوري من إلحاق الهزيمة بجحافل الجيوش الإرهابية وأعتى التنظيمات القاعدية , ولم يمنع العراق وفصائل المقاومة العراقية من هزيمة تنظيم الدولة "داعش" , وملاحقة فلوله , وشل حركته خصوصاً على الشريط الحدودي ما بين سوريا والعراق , ومن محاربة الوجود الأمريكي نفسه في العراق لإجبار واشنطن على الخروج والإنسحاب دون قيد أو شرط.

كذلك تسبب التواجد العسكري الأمريكي في الشرق الأوسط بتواجد مماثل لأعدائها كروسيا والصين , ولم تستطع التكنولوجيا الحربية الأمريكية الصمود أمام نظيراتها الروسية والصينية والإيرانية , وبدأ حلفاء واشنطن بالبحث عن صفقات السلاح الروسي .

بالإضافة إلى أنها لم تستطع إخضاع إيران وتقليص نفوذها , ووقف إتفاقها الدولي النووي , ولم ولن تستطيع هزيمتها في فيينا, ولم تستطيع تغيير النظام السياسي وعقيدة الجيش العربي السوري , ولم تستطع التأثير على قوة وجهوزية حزب الله , وعلى شرعية وجهوزية الحشد الشعبي , وعلى الحضور القوي المتطور لفصائل المقاومة الفلسطينية .

كما أنها لم تسجل أي نجاح في السيطرة على الملاحة البحرية في مضيق هرمز , ولم تستطع إيجاد حل للصواريخ البالستية الإيرانية وزوارقها الحربية , وبدأت بالبحث عن بدائل في ينبع على البحر الأحمر... ولم تستطع منع تطور الحركة التجارية على خط بكين – موسكو .

وعليه .... يبدو بقاء القوات الأمريكية في الشرق الأوسط لم يحقق ما كانت تصبو إليه المخططات الأمريكية , وبات عليها استبدال وجودها العسكري بحضور سياسي وإقتصادي قوي , والإبقاء على خطط التحرك العسكري السريع للتدخل عند الضرورة , وبالتالي سيكون إنسحابها – إن حصل – محسوباً بدقة متناهية , على غرار تقليص الرئيس ترامب لعديد القوات الأمريكية في سوريا , وكلامه عن حضوره القوي وقت الحاجة – وكان يعني إعتماده على قواته المتواجدة في العراق -.

ومن حيث النتيجة , أصبح الوجود العسكري في الشرق الأوسط مصدر قلق البيت الأبيض والبنتاغون , نتيجة المصاعب والمضايقات التي تتعرض لها القوات الأمريكية في العراق على يد أبطال المقاومة في الحشد الشعبي وغير فصائل وأحزاب , كذلك بدأت تصاعد الأبخرة في الجزيرة السورية تشي بمقاومة واعدة , ومدعومة من القيادة والجيش والشعب السوري ومحور المقاومة والحلفاء .

بات على واشنطن حسم المشهد بقراءة براغماتية في مراكز صنع القرار الأمريكي , وبات عليها وضع الخطط الهادئة والمعلنة وبدون قيدٍ أو شرط للخروج الاّمن وبماء الوجه من مركز الصراع الدولي في الشرق الأوسط , ومن أرض التاريخ والبطولة في العراق , ونقطة توازن العالم في سوريا , وبات على الرئيس بايدن اللجوء إلى خبرته الطويلة , وإيقاف "رسائله" العسكرية السخيفة على غرار ذريعة رسائل عدوانه الأخير على الحدود السورية – العراقية إلى إيران , فقد يُسرّع تكرار أخطاؤه من عملية إخراج قواته من العراق وسوريا بطريقة مذلة للغاية...  

المهندس: ميشيل كلاغاصي

12/7/2021 

Saturday, July 10, 2021

الإنسحاب الأمريكي .. أفغانستان من الحرب الأبدية إلى الحرب الهجينة - م. ميشيل كلاغاصي

على الرغم من المخاوف الأمريكية المسبقة من النجاحات التي يمكن أن تحققتها طالبان مع بدء الإنسحاب الأمريكي من أفغانستان , ومع تأكيد السفيرة غرينفيلد على أن "العالم لن يقبل سيطرة طالبان على كابول والحكومة ، أو إقامة أي حكومة في أفغانستان يتم فرضها بالقوة" , وأنه لا بد من "تسوية سياسية شاملة تفاوضية تستند إلى عملية يقودها ويملكها الأفغان" ... ويبقى السؤال , مالذي يدفع الرئيس بايدن والقادة العسكريون في الولايات المتحدة وبريطانيا والدول الحليفة ، لقبول الهزيمة أمام طالبان ؟ وبتنفيذ إنسحاب مذل , بعد عشرين عاماً لتواجدٍ عسكري لم يقض على الإرهاب ولم ينتج سلاماً أو إتفاقاً سياسياً , ولم يحقق الإستقرار.

فالحرب الأفغانية التي وُصفت بـ"الحرب الأبدية", وبحسب المصادر الإعلامية الأمريكية , كلفت وزارة الخزانة الأمريكية أكثر من تريلوني دولار , وخسارة حوالي 2500 جندياً أمريكياً , و1150 من جنود حلفائها ، وأمام سرعة الإنسحاب والمفاجئة بسرعة تمدد طالبان وسيطرتها على غالبية المدن والمناطق وعلى الحدود مع ايران وطاجكستان , فما هو الهدف الحقيقي لإنسحاب واشنطن ومن يدور في فلك هيمنتها....

سلوك أمريكي مشين وأكاذيب استمرت عشرون عاماً للغزو الأمريكي الوحشي , ولتدمير الإقتصاد الأفغاني ومقدرات الدولة ولإفقار الشعب الأفغاني , ولإغراق البلاد والعالم بتجارة المخدرات , ولجعل الحياة هناك تبدو مستحيلة , ويعود السؤال إلى المربع الأول , ما هي أسباب الغزو الأمريكي قبل السؤال لماذا هو الإنسحاب الأمريكي .

بات من المؤكد أن واشنطن تدفع أفغانستان للسقوط في براثن طالبان مرتين , وسبق للرئيس الأفغاني السابق حامد كرزاي قوله : دخلت أمريكا إلى أفغانستان "لمحاربة التطرف ولتحقيق الاستقرار, وتتركها بعد عشرين وقد فشلت في كلتا المحاولتين" , وأكد أيضاً قبيل بدء الإنسحاب في مقابلة مع وكالة أسوشيتد برس : أن التطرف اليوم في "أعلى مستوياته"، وأن القوات المنسحبة تترك ورائها "عار وكارثة" وأمة مزقتها الحرب.

فعلى غرار انسحاب الولايات المتحدة ، وعلى اختلاف حجوم تواجدها العسكري انسحبت بريطانيا وجميع قوات الـناتو , بصمت وبهدوء وسرعة ومن دون مكاسب وحتى من دون مراسم.  

وحدها تركيا تخطط لإنتشارٍ كبير, ولمهمة حماية مطار حامد كرزاي الدولي في كابول - بحسب وزير الدفاع التركي خلوصي أكار- , ولإقحام نفسها في الصراع , أهو التكليف الأمريكي , أم أطماع أنقرة ببسط نفوذها في اّسيا الوسطى؟...

ففي 14 حزيران وعلى خلفية اجتماعات G7 , التقى الرئيسان التركي والأمريكي في بريطانيا , وأكد أردوغان أن "الأيام المقبلة ستشهد تعاوناً وفيراً ومثمراً" , في الوقت الذي كان الوزير بلينكن يؤكد في اللقاء الصحفي مع نظيره الإيطالي , أنه بات من الضروري إيجاد "الحل" لعودة المقاتلين الأجانب في سوريا إلى دولهم , فهل تم الإتفاق على إرسالهم إلى أفغانستان , وبذلك يمكن تفسير التقارب الأوروبي مع تركيا , والرضا الأمريكي , بتكليف تركيا لرعاية وصول الإرهابيين من سوريا وغير مكان إلى أفغانستان , من خلال صفقة أمريكية - أطلسية –أوروبية , وهذا بدوره يفسر التحضير التركي لإرسال الدفعة الأولى لحوالي ألفي إرهابي يعملون تحت أمرتها في شمال وغرب سوريا إلى أفغانستان مقابل ثلاثة اّلاف دولار شهرياً ...

إن التماهي ولعب الأدوار ما بين قطر وتركيا في خدمة المشاريع الأمريكية , تكفل بإشراف قطر على المحادثات الأفغانية مع طالبان , فيما ستتكفل تركيا بالإشراف الميداني مع طالبان...

ومع ذلك يبدو أردوغان يقامر بكل ما يستطيع لتجنب الغضب الأمريكي في عهد بايدن ... وسيكون العالم ممتناً لتركيا إذا ما نجحت في إحلال السلام والاستقرار هناك , ولكن كيف لها أن تكون عامل استقرار بدون حشودٍ عسكرية كبيرة وتمويل كبير, من سيدفع تكاليفها وإرهابييها ؟, أم ستترك لها فرصة الإعتماد على أموال الغاز في تركمانستان ونفط كازاخستان , أم ستضطر إلى سرقة معامل كابول ونفطها وثرواتها وابتزاز ملف اللاجئين الأفغان , على غرار ما فعلته في سوريا , وفي جميع الأحوال لن تكون مهمة تركيا سهلة في منطقة آسيا الوسطى ، فتوسيع رقعة السلطنة , وبعد الجنود ومراكز السلطة عن الباب العالي , كانت من أهم أسباب ضعف وإنهيار الإمبراطورية العثمانية , ناهيك عن نظرة طالبان للأتراك على أنهم مرتدون وترتدي نسائهم لباس البحر كالأوروبيين , ويعترفون بالمثليين , فيما تسعى طالبان لإعلان دولة إسلامية متشددة تجمع داعش وطالبان , وعليه ما تعتبره تركيا من "مزاياها" و"إيجابياتها" سيكون غير كافٍ هناك.   

إن الإنسحاب الأمريكي الهادئ أمام أعين طالبان يشير إلى عدم اهتمامها بمحاربة القوات الأمريكية ، وتركيزها على مواجهة قوات الحكومة الأفغانية , وقد تتمكن طالبان من فرض سيطرتها على كامل البلاد قبل نهاية العام , فإستعدادتهم للتمدد والتمركز والقتال , تفضح نواياهم وتطلعاتهم لإعلان إمارة إسلامية معمرة – كما يبدو مخططاً ومنتفق عليه مع واشنطن - , لإستقدام وتخزين تنظيم داعش والقاعدة لوقت الحاجة اليها خارج الحدود.

لا يملك الرئيس بايدن بعد عشرون عاماً في أفغانستان جواباً وضمانات يقدمها للأوروبيين , وبات عليهم التفكير بكيفية ضمان أمن سفاراتهم وموظفيهم ومستشاريهم ، وسلامة الطريق نحو مطار كابول , هذا إن لم يسقط خلال وقت قصير,  ويبدو كلام جوزيب بوريل ساذجاً , بالحديث عن مناقشات بروكسل والناتو وواشنطن , لكيفية حماية وضمان استمرار وجودهم الدبلوماسي.

على الرغم من حديث طالبان عن إلتزامها بمفاوضات السلام , إلاّ أنها في السابق , لم توقف العنف والتصعيد العسكري في جميع أنحاء البلاد , أثناء المحادثات مع مسؤولي الحكومة الأفغانية في قطر, وعليه تتجه الدعوات اليوم لحث طالبان للبحث عن الحلول والتفاوض مع السلطات الأفغانية بعيداً عن ساحة المعركة... وجاء الرد عبر المتحدث بإسم طالبان "ذبيح الله مجاهد" لوكالة "رويترز" في مطلع الإسبوع :"نحن جادون , وسيتم تسريع محادثات السلام , والتوصل إلى خطة مكتوبة للسلام , على الرغم من يدنا العليا في ساحة المعركة".   

يبدو الإنسحاب الأمريكي , يشي بحربٍ من نوع اّخر , لن تكون فيه القوات الأمريكية على الأرض , وستبقى طائراتها المسيرة وقاذفاتها تضمن سير مصالحها على الأرض , ويبدو أنها تبحث عن مرحلةٍ جديدة على أرض أفغانستان حيث تلتقي فيها مصالح جميع الدول المتنافسة والمتصارعة حول العالم تقريباً.

يبدو أن الولايات المتحدة تحاول جاهدة استبدال "الحرب الأبدية" في أفغانستان بحربٍ هجينة قد تمتد شظاياها الجيوسياسية إلى روسيا والصين وإيران , وباكستان وكافة دول آسيا الوسطى , وتسعى في الوقت الذي تنسحب فيه من أفغانستان إلى إعادة تمركز بعض قواتها في أوزبكستان وطاجيكستان ، بدعم من بعض النخب في الحكومة الأفغانية , بحجة التدخل ضد طالبان إن دعت الحاجة , الأمر الذي تعارضه روسيا والصين , وعليه يبدو أن ما يراه البعض نهاية مرحلةٍ أمريكية , لا يعدو أكثر من بدايةٍ لمرحلة أخرى بنفس الهدف والمضمون.

المهندس : ميشيل كلاغاصي

10/7/2021

Saturday, July 3, 2021

السياسة التركية على حدود القوة والإنهيار- م. ميشيل كلاغاصي


على مرّ القرون والعقود , لا يزال البحث عن أعداء تركيا مهمة سهلة بالمقارنة مع البحث عن أصدقائها , حتى أن علاقاتها في محطيها الجغرافي والحيوي والجيوسياسي وتحالفاتها الأطلسية والإستراتيجية , تبدو هشة وحذرة وغير مستقرة وتفتقد دائماً إلى الثقة , واحتاج "عقلها المفكر" داوود أوغلو لإبتكار معادلة "صفر مشاكل" , حفاظاً على دورها ومصالحها وأطماعها و"أحلامها بإستعادة أرض وأمجاد الأجداد", عدواناً أو استلاباً , في إعتمادٍ شبه كلي على القوة العسكرية ووصول الجيش التركي وأدواتها الإرهابية إلى أبعد ما يكون وفي جميع الإتجاهات , فهل خرجت تركيا عن سيطرة  الأقطاب الكبرى في هذا الجزء المعقد من العالم ؟ أم تكتفي بإستعراض عضلاتها في بحثها عن هويتها العثمانية الجديدة ومكانتها في العالم الجديد ؟ , وهذا يدفع للسؤال ماذا تريد تركيا من العالم ؟ وماذا يريد العالم منها ؟.

وبالنظر إلى تاريخها , تبدو هيمنة حكم الإمبراطورية العثمانية جليةً على مدى سبعة قرون , بالمقارنة مع فترة حكم الدولة التركية القومية الحديثة (مصطفى كمال أتاتورك ), إلى أن فرض أحمد داود أوغلو رؤيته الجيوسياسية التركية المعاصرة وتبناها الرئيس أردوغان , والتي تحلم وتبحث في جوهرها عن إعتراف العالم بتركيا كقوة أوروبية ، وقوة في البلقان ، وقوة متوسطية ، وقوة شرق أوسطية ، وقوة شمال أفريقية ، وقوة قوقازية ، وقوة في آسيا الوسطى ، وقوة أوروبية آسيوية , من خلال إعلان نفسها كقوة إسلامية تمتلك حقوق ومبررات تاريخية لإدعاءاتها وأطماعها.

إن إعتمادها على الظهور الديني , دفعها للإصطدام بالمملكة العربية السعودية - وليس بإيران كما يعتقد البعض – على خلفية تقديم أردوغان نفسه قائداً للعالم الإسلامي السني المعتدل , بالتوازي مع حكم تركيا كدولة دستور وإنتخابات "ديمقراطية"، وهذا ما لا يُرضي الرياض وإيدولوجية الأسرة الحاكمة وبيئتها الوهابية , ويدفعها للتركيز على الإجماع الدولي وبعضه عربي , بتصنيف الإخوان المسلمين "منظمة إرهابية".

لم يجد الرئيس أردوغان صعوبةً لتقديم نفسه كقائدٍ ومتحدثٍ رسمي بإسم العالم الإسلامي في المحيط العربي , نتيجة تشرذم العالم العربي وإنقسامه حول القضايا الجوهرية والصراع العربي - الإسرائيلي , وإلتفافه نحو محفظة النقود السعودية والخليجية عموماً , الأمر الذي دفعه للغرق في فوضى التطرف والتطرف المعاكس , ولغض الطرف عن خطر التنظيم الإخواني وإرهابه في سوريا وليبيا وغير مكان , والتركيز على إستحضار الأحقاد والفتن والمشاركة في المؤامرات على أنظمة بعض الدول العربية , تمهيداً للإنبطاح في الحضن الأمريكي والإسرائيلي والذي تُرجم مؤخراً بتطبيع مذل ومجاني , حفاظاً على العروش والمكانة.  

كذلك سعى أردوغان لإستمالة الشعب التركي تارةً عبر الإستفادة من المشاعر التركية التاريخية المناهضة للغرب عموماً , وتارةً  عبر شحذ المشاعر القومية التركية , واستطاع إمتلاك القوة للمراهنة على النبضات الإسلامية والعثمانية الكامنة لدى بعض الشعوب ( إيغور , أوزبك , تتار , كازاخ ، قرغيز ، تركمان ، اّذار) , واتكئ عليها لنشر جنوده على امتداد حدود أطماعه , وبات الحديث عن تواجد عسكره وإنكشارييه تكتيكاً جيوسياسياً , يمكّنه من الوصول إلى قبرص واليونان وليبيا ولبنان وفلسطين المحتلة والسودان والقرم والصين , ناهيك عن دول الجوار في سوريا والعراق وناغورني كاراباخ ...إلخ.

إن حضور تركيا الأطلسي وفي قلب الناتو , يمنحها مقعداً في الملعب الجيو سياسي الأوروبي , وإمكانية التلاعب بقضية اللاجئين وإثارة  قلق الإتحاد الأوروبي المزمن وتحويله إلى أرق دائم ... في حين تحافظ روسيا على علاقات عسكرية وسياسية وإقتصادية وسياحية مميزة مع تركيا , وتسعى لتطويرها , إلاّ أنها لا تشعر بالراحة , وتتعامل معها على مضض , حالها كحال الصين , سواء كان الحديث عن مسالك النفط والغاز وطريق الحرير والتجارة والمضائق البحرية .

لا يمكن الحديث عن سياسةٍ خارجية للدولة التركية مع كل هذه الطموحات والمغامرات ، والتي يراها البعض أفخاخاً نصبها اللاعبون الكبار على شكل صواعق قد تنفجر في لحظات , وتصنع الفارق لإنهاء الأرحجة التركية ما بين حدود القوة والإنهيار , فهناك من يراكم أخطائها ويضيق عليها الخناق تدريجياً , ومن يضعها أمام الخيارات الصعبة , كذلك لا يخفى على أحد إنقسام الداخل التركي , وميل الغالبية لتحميل حكومة أردوغان مسؤولية تردي الأوضاع الداخلية والمشاكل الخارجية , بالتوازي مع تاّكل وتدهور شعبية أردوغان وحزب العدالة والتنمية , ناهيك عن تفشي الفساد والقمع والإقتصاد المتدهور ... أما خارجياً , ومع احتدام المخاض الدولي , وتفاهمات قمة جنيف الروسية – الأمريكية , وإمكانية تبلور صيغ مؤقتة لحقن الصدام , ومع التقاطع الحتمي للمصالح الدولية الكبرى , والإحباط الذي شعر به أردوغان عشية قمة الـ G7 , وكلامه حول: "عدم حصولنا على الدعم الذي توقعناه من المجتمع الدولي سواء في المعركة ضد التنظيمات الإرهابية أو لجهودنا في زعزعة استقرار سوريا" , فقد تنعكس البوصلة لتعيد تركيا و"السلطان" إلى فراش الموت والمرض , ويستغلها التاريخ لتكرار نفسه ثانيةً , بالتوازي مع الرياح الجديدة للعالم الجديد.

المهندس: ميشيل كلاغاصي

3/7/2021