تحتل الولايات المتحدة الأمريكية المرتبة الأولى عالمياً
في نشر وتواجد قواعدها وجنودها حول العالم , وتستفيد من تواجدهم سواء تم تكليفهم
بمهام تحت عنوان فرض النفوذ والهيمنة , أو بمهام قتالية ساخنة , وهذا يخضع
لحساباتها في شن الحروب أو لشكل تدخلها العسكري اللاشرعي في شؤون الدول , ومما لا
شك فيه بأنها لا تقحم قواتها العسكرية في حروبٍ تعتقدها خاسرة مسبقاً بشكل حسابي ,
ولا يمكنها تحمّل تبعات مقتل جنودها خارج حدودها باّلاف الأميال , ناهيك عن
التكاليف الباهظة التي تتطلبها الحروب .
إن تواجد القوات الأمريكية في الشرق الأوسط , من خلال التمركز
والقيام بمهام دفاعية وهجومية ولوجستية , جاء ليحقق حزمة كبيرة من الأهداف
السياسية والعسكرية والإقتصادية , وفي الوقت الذي تبدأ فيه واشنطن بمناقشة جدوى بقاء
قواتها في الشرق الأوسط , أو رحيلها , والثمن الذي يتعين عليها دفعه مقابل عواقب قرار
إنسحابها منه, يدفعنا للسؤال , هل حققت جميع أهدافها , ولم يعد لها مهام مستقبلية
في المنطقة , وهل هي جادة في الخروج من قلب الشرق الأوسط ؟.
يبدو أن الطبيعة البراغماتية للسياسة الخارجية الأمريكية
, دفعتها نحو إعادة تقييم وجودها العسكري , من خلال فشلها في تحقيق غالبية أهدافها
, وانعكاس بعض النتائج سلباً على ميزان الربح والخسارة الأمريكي الإجمالي , وباتت
تفكر بالحفاظ على مكاسبها , وبإغلاق العديد من قواعدها العسكرية المنتشرة في جميع أنحاء
الشرق الأوسط وسحب الأساطيل البحرية غير الضرورية المتمركزة في دول الخليج العربي,
وبإستبدال أدوارها العسكرية بأدوار سياسية وإقتصادية , من خلال هواجس مزعجة , كفضح
هزائمها , أو لمجرد التفكير بمن سيحل محلها ويملئ الفراغ.
وخلال العقدين الأخيرين , قاتلت أمريكا بشكل مباشر أو عبر
دعم حلفائها وأدواتها في الشرق الأوسط , وتكبدت تكاليف باهظة , ولم تستطع الفوز
بإحلال الإستقرار أو السلام على طريقتها ووفق شروطها , وعلى العكس تماماً فقد فازت
بتضاعف أعداد أعدائها , وبتعريض قواتها للمخاطر في عدة دول كالعراق وسوريا ( قاعدة
عين الأسد , وقاعدة حقل العمر , وقاعدة كونيكو).
وعلى ما يبدو أنها حررت نفسها ممن يعارضون إنسحابها من
الشرق الأوسط , بداعي بقائها لأجل حمايتهم , كإسرائيل ودول الخليج وميلشيات
"قسد" وغيرهم , والتي استخدمت لأجل ذلك عناوين مزيفة , كمحاربة تنظيم
"داعش" , وضمان عدم انتشار الأسلحة الكيميائية وأسلحة الدمار الشامل ,
وحماية اّبار النفط السوري , وحماية الحريات وحقوق الإنسان , ولحماية الأمن الوطني
الأمريكي , ولمنع إيران من الحصول على القنبلة النووية , ولردع أحزاب وفصائل
المقاومة اليمنية والعراقية واللبنانية والفلسطينية , وكل من تصنفه منظمة إرهابية
على هواها , وعشرات الذرائع الواهية.
لكنها أخفت وراء ذرائعها حقائق كبرى , تقف وراء التفكير
الجدي بإنسحابها من الشرق الأوسط , فالدول العربية وبعض دول المنطقة كإيران على
سبيل المثال , وعلى الرغم من السعي الأمريكي الخبيث لزرع بذور الكراهية وإثارة
الفتن , لا تزال ترغب بإقامة أفضل العلاقات فيما بينها , وتبحث عن الإستقرار
والإزدهار , ويمكن بسهولة احتواء المشاكل ما بين كافة الدول العربية وإيران التي
تستحق وتستطيع مدّ دول المنطقة بالعلوم والتكنولوجيا والأدوية ولقاحات الكورونا ...إلخ , وتبادل التجارة البينية والسياحة
.....
بالإضافة إلى ذلك ، فإن الوجود الأمريكي في الشرق الأوسط
لم يستطيع حماية "إسرائيل" وتفادي هزيمتها في حرب تموز 2006 ، ولم يمنع
"حماس" من قصف المناطق والمدن الإسرائيلية من الشمال إلى الجنوب في حرب "سيف
القدس" , كذلك لم يستطيع منع الجيش العربي السوري من إلحاق الهزيمة بجحافل
الجيوش الإرهابية وأعتى التنظيمات القاعدية , ولم يمنع العراق وفصائل المقاومة العراقية من
هزيمة تنظيم الدولة "داعش" , وملاحقة فلوله , وشل حركته خصوصاً على الشريط
الحدودي ما بين سوريا والعراق , ومن محاربة الوجود الأمريكي نفسه في العراق لإجبار
واشنطن على الخروج والإنسحاب دون قيد أو شرط.
كذلك تسبب التواجد العسكري الأمريكي في الشرق الأوسط
بتواجد مماثل لأعدائها كروسيا والصين , ولم تستطع التكنولوجيا الحربية الأمريكية
الصمود أمام نظيراتها الروسية والصينية والإيرانية , وبدأ حلفاء واشنطن بالبحث عن صفقات السلاح
الروسي .
بالإضافة إلى أنها لم تستطع إخضاع إيران وتقليص نفوذها ,
ووقف إتفاقها الدولي النووي , ولم ولن تستطيع هزيمتها في فيينا, ولم تستطيع تغيير
النظام السياسي وعقيدة الجيش العربي السوري , ولم تستطع التأثير على قوة وجهوزية
حزب الله , وعلى شرعية وجهوزية الحشد الشعبي , وعلى الحضور القوي المتطور لفصائل
المقاومة الفلسطينية .
كما أنها لم تسجل أي نجاح في السيطرة على الملاحة
البحرية في مضيق هرمز , ولم تستطع إيجاد حل للصواريخ البالستية الإيرانية وزوارقها
الحربية , وبدأت بالبحث عن بدائل في ينبع على البحر الأحمر... ولم تستطع منع تطور الحركة
التجارية على خط بكين – موسكو .
وعليه .... يبدو بقاء القوات الأمريكية في الشرق الأوسط
لم يحقق ما كانت تصبو إليه المخططات الأمريكية , وبات عليها استبدال وجودها
العسكري بحضور سياسي وإقتصادي قوي , والإبقاء على خطط التحرك العسكري السريع
للتدخل عند الضرورة , وبالتالي سيكون إنسحابها – إن حصل – محسوباً بدقة متناهية ,
على غرار تقليص الرئيس ترامب لعديد القوات الأمريكية في سوريا , وكلامه عن حضوره
القوي وقت الحاجة – وكان يعني إعتماده على قواته المتواجدة في العراق -.
ومن حيث النتيجة , أصبح الوجود العسكري في الشرق الأوسط مصدر
قلق البيت الأبيض والبنتاغون , نتيجة المصاعب والمضايقات التي تتعرض لها القوات
الأمريكية في العراق على يد أبطال المقاومة في الحشد الشعبي وغير فصائل وأحزاب , كذلك
بدأت تصاعد الأبخرة في الجزيرة السورية تشي بمقاومة واعدة , ومدعومة من القيادة
والجيش والشعب السوري ومحور المقاومة والحلفاء .
بات على واشنطن حسم المشهد بقراءة براغماتية في مراكز
صنع القرار الأمريكي , وبات عليها وضع الخطط الهادئة والمعلنة وبدون قيدٍ أو شرط
للخروج الاّمن وبماء الوجه من مركز الصراع الدولي في الشرق الأوسط , ومن أرض
التاريخ والبطولة في العراق , ونقطة توازن العالم في سوريا , وبات على الرئيس بايدن
اللجوء إلى خبرته الطويلة , وإيقاف "رسائله" العسكرية السخيفة على غرار ذريعة
رسائل عدوانه الأخير على الحدود السورية – العراقية إلى إيران , فقد يُسرّع تكرار
أخطاؤه من عملية إخراج قواته من العراق وسوريا بطريقة مذلة للغاية...
المهندس: ميشيل كلاغاصي
No comments:
Post a Comment