Wednesday, July 18, 2018

سورية والتاريخ توأمان - ميشيل كلاغاصي


سورية و التاريخ توأمان
" نحن جميعاً نحبك سورية "

منذ أن خُلق الإنسان دخل في صراعٍ  مع عوامل البيئة من أجل إثبات نفسه كجنسٍ متميز يبتكر تاريخه الخاص , مبتعداً عن الأجناس الأخرى التي خلفها وراءه بلا تاريخ مستسلمة لآلية الطبيعة , وجاءت حضارتنا ثمرة لذلك السعي الدائب الذي استمر مئات الألوف من الأعوام وأثبت علم الاّثار الحديث وعلم الحياة النباتية لما قبل التاريخ , أن أول أشكال النمو والتطور الفكري الانساني وبدايات التجارب الإنسانية في الزراعة والتدجين الحيواني , قد بدأت في سهول سوريا وغربي البحر الميت في ما قبل الألف الثامن قبل الميلاد .
واعتبر ذلك ثورة وثقافة أولى جاهدت لاكتساب العالم واكتملت في سومر, ثم انطلقت نحو الهند ومصر فكانت المحرض الأول للنهضة الأولى في مصر حوالي عام 2800 ق. م , ثم اتجهت نحو كريت غرباً والهند شرقاً حوالي 2600 ق. م , ووصلت الصين عام 1600 ق. م , وأخيراً عبرت المحيط الهادي نحو العالم الجديد فوصلت أمريكا الوسطى و الجنوبية بين القرن السابع والرابع ق. م و بذلك يمكننا القول أن الحضارة الإنسانية عبارة عن شجرة واحدة ذات أصل واحد وفروع متعددة.
بما لاشك فيه أن الرقعة التي نضجت فيها تأملات الانسان البدائية وتصوراته الدينية وأساطيره يمكن اعتبارها نقطة البداية التي انطلق الإنسان منها وتعلم الكتابة وسمّى الأشياء بأسمائها و قدمها كفنون تشكيلية في صور و رموز شتى ... وانطلق بعدها واثقاً يراكم علومه وما أكتسبه في بنيان وتجمعات انسانية مذهلة , فكان ظهور ما يسمى بالمدن الكبيرة ذات التنظيمات المدنية والسياسية والإقتصادية المعقدة , كل ذلك على أنقاض النظام الزراعي البسيط بصورة تعكس تشعب الاختصاصات وتقسيم العمل في المجتمع الجديد وتمركز السلطة بيد الملك. ولا تقتصر انجازات هذا الإنسان عند هذا بل تراه يترافق ويتعدى ذلك إلى نحو في كل ما يتعلق بفكره الديني من خصائص ووظائف و طقوس وأساطير وتراتيل... فنلاحظ في سومر أوجد اّلهة المياه الأولى "نمو" و "انانا" اّلهة الطبيعة والخصب والثورة الزراعية , وفي بابل "ننخر ساج" وفي كنعان و"عناة " وفي مصر "نوت" و "ايزيس" وفي جزيرة العرب "اللات" و "العزى" ... ليست هذه الأمثلة إلا غيضاً من فيض في جذور الحضارات جميعاً. ففكرة الأسطورة الدينية وما انبثق عنها من إبداعات تجسدت في اّلهة متعددة ليست إلا نواة تفكير واحد انطلق بأشكال متعددة يمكن تسميته بالأم الأولى والتي اشتهرت في حضارة بابل باسم "عشتار" البابلية , حيث كانت بوجدانهم وتفكيرهم تمثل ربة الحياة وخصب الطبيعة وهي الهلاك والدمار وربة الحرب وفي الليل عاشقة وفي النهار مقاتلة ترعى المواقع . وهي الأم الرؤوم التي ترعى الحوامل والمرضعات وهي البوابة المظلمة ملتهمة جثث الأعداء , هي القمر المنير هي النور بشعلتها الأبدية , هي الأم المنجبة هي البتول ربة الحكمة هي الاشراق بالعرفان والكثير من صفاتها التي تعكس طيبها وحتى غضبها وانتقامها , فمن يجرؤ على هتك سرها حلّت عليه لعنتها , إنها الأنثى الخالدة الكامنة في ضمير كل منا .
نعم إنها حكاية سورية , وطن الأوطان ...أخي السوري لقد خلقنا الله من تربة وعليها نقف ونعيش , نفخر ونعتز بها أنها وطننا الرائع وبيتنا الحنون وأمنا الرؤوم سوريا عندما تنظر الى الوراء وترى اّثار أقدامك ويعرف من يتتبعك من أنت ومن أين , سيعرف تماماً أنك الأصيل وابن الغالية , كيف لا نعتز بوطن تروي أرضه وكل ذرة تراب فيه حكاية البداية وتعد بخلود الرسالة أكثر من تسعة ألاف عام ولا تزال سورية الأرض المنجبة حامية الشعلة والقمر المنير وربة الحكمة.
كم هو رائع أن يجود فكرنا وخيالنا ووجداننا في كنفها وبين أحضانها ونطلق عليها مختلف الأسماء ونصورها بأحلى الصور ونُعلي بنيانها ونمتّن أسوارها.
وكم هو مؤلم أن تنجب من لم تنمو جذوره لتلتحم برحمها ويتجرأ على قطع حبله السري معها , ويقف أمامها و ينكر فضلها ويحمل السلاح بوجهها ويدمرها ويجن جنونه من تاريخها ويدمر آثارها ولا يستطيع أن يرى وجهها إلا من خلال العمى الذي أصيب فيه أهو الجهل أم المال أم ماذا ؟ .
ماذا ستجني لو قتلت أمك ؟. من ستكون عندها وما أسمك ؟ ومن أين أتيت ؟ أتفضل أن تكون لقيطاً وبلا أصل ألا تعلم أن غيرة العالم من أمك ومن عمق جذورها هم من يدفعونك لتدميرها ؟.
ألا تدري أنها تدافع عنك ولا تزال تحبك وتريدك أن تعود لحضنها لأنها تعرف أنك غدوت ضعيفاً هزيلاً كالريشة تتقاذفك رياح الجهل والحقد والغضب ... من سيكون وفياً لك و لشر أعمالك ؟.. هل يَصدُقَك من كان كاذباً ويحن عليك  من كان بلا قلب ووحش  مفترس..!.
أخشى أن تعرف قيمة أمك بعد فقدانها , ألا تخشى الندم و ماذا سينفع ؟.. ألا عد أخي أمك تسامحك و بدفء ذراعيها تستقبلك و أسمعها صوتك و قل لها ماذا تريد ؟... فلن تبخل عليك أنها كما وصفها أجدادك الأم المنجبة و ربة الحكمة و الأم  الرؤوم .
أحبك سورية .... نحن جميعاً نحبك سورية ....
                                                      المهندس : ميشيل كلاغاصي

No comments:

Post a Comment