Wednesday, October 5, 2022

التحول في السياسة التركية .. إردوغان يخطف الكنز قبل أن يستيقظ التنين - م. ميشيل كلاغاصي

زيارات مكثفة قام بها الرئيس التركي رجب طيب إردوغان في الفترة من 6 إلى 8 أيلول / سبتمبر , وبحسب ما أعلنته الخارجية التركية بأن الغرض الرئيسي من رحلة الرئيس هو "ضمان السلام الإقليمي وتطوير العلاقات الإقتصادية" .. لكن يبقى وراء الأكمة ما ورائها

يبدو أن تكثيف الزيارات قبيل قمة شنغهاي , وفي خضم المعارك الدائرة في أوكرانيا , وتصاعد حدة المواجهة بين موسكو وواشنطن والناتو والإتحاد الأوروبي , وعدم استبعاد احتمالية بدء التفاوض , بالتوازي مع اتجاه أنقرة نحو تغيير سياستها الخارجية على أمل حصادها في الداخل التركي مع اقتراب الإنتخابات الرئاسية , والإنعطافات والأدوار الجديدة للرئيس التركي , أمورٌ تشي بمجملها بأن الرجل على عجلةٍ من أمره , كمن يحاول خطف الكنز قبل أن يستيقظ التنين.

لم يُخف الأتراك يوماً اهتمامهم بـ شبه الجزيرة البلقانية وبمناطق جنوب القوقاز, التي تحتل لديهم مكانةً "رفيعة" وفق الإيديولوجية الإردوغانية - العثمانية الجديدة , بالإضافة إلى مكانتها الحالية الناتجة عن تفاقم الأزمات الإقتصادية وأزمة الطاقة , بعد فشل المخطط الأمريكي – الغربي لتدمير روسيا ، ومن الواضح أن الرئيس التركي يبحث عن تحالفات واسعة مع الدول المؤيدة لتركيا , وتشكل مسرح الإهتمام والترويج التركي لمظلة مشروع "طوران العظيم" الذي خَفَتَ الحديث عنه مؤخراً , لكنه لا زال على ما يبدو يدغدغ أحلام الرئيس التركي , تحت عنوان "إن هبت رياحك فإغتنمها".

فقد ازداد اهتمام أنقرة بمنطقة البلقان مع التعنت الأوروبي ورفض دخول تركيا الإتحاد الأوروبي , وتم تقاسم النفوذ في منطقة البلقان ما بعد إنهيار الإتحاد السوفيتي والعدوان الأمريكي على يوغوسلافيا عام 1991, ما بين الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي وتركيا وعدد من الدول العربية , وأصبحت البلقان بصبغتها السلافية والمسيحية منطقة جذب للولايات المتحدة ودول الإستعمار القديم , واستخدمت فيها النفوذ الإسلامي التركي والعربي للقضاء على ما تبقى من النفوذ السوفيتي , ووجدت تركيا الفرصة لإقحام مشروعها الطوراني "علم واحد ، وشعب واحد ، ودولة واحدة", من تركيا إلى اليونان وبلغاريا والبوسنة والهرسك وصربيا.                      

ومع وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة , صبت أنقرة اهتمامها على تعزيز حضورها من خلال منظمات ومؤسسات ومراكز ذات صلة مباشرة مع المواطنين ( معهد يونس إمري ، رئاسة الأتراك في الخارج ، وكالة التعاون والتنسيق التركية ، مديرية الشؤون الدينية ) , كقنوات للتواصل مع مسلمي البلقان , وبهدف الترويج لأفكار القومية التركية , وتكريسها أفعالاً على أرض الواقع لإستمالة جميع المكونات , كترميم الكنيسة البلغارية في اسطنبول.

ومنذ بداية عام 2000 , سعت تركيا إلى تطوير علاقاتها مع جميع دول المنطقة , بما فيها صربيا وألبانيا , وأظهرت اهتماماً خاصاً بالأوضاع في البوسنة والهرسك , وحاولت أن تكون وسيطاً في لتذليل العقبات والتناقضات الناشئة بين الجاليات المسلمة وباقي المكونات الأخرى في المنطقة , وسط تركيزها على احتفاظ من اهتمت بتسميتهم  "الشتات التركي" في دول البلقان بعلاقاتهم مع أقاربهم في تركيا ، وبالمهاجرين والوافدين من تلك المناطق إلى تركيا , وحافظ الرئيس إردوغان على استمرارية زياراته إلى دول البلقان خلال الحملات الإنتخابية في تركيا.

واليوم لم تخرج رحلته إلى البلقان عن سياقها المعهود , وبدا معها تصريح الخارجية التركية طبيعياً وإعتيادياً , وبأن هدف الزيارات كان لـ "ضمان السلام الإقليمي وتطوير العلاقات الإقتصادية" , في حين أعلن الرئيس إردوغان بنفسه , أن زيارته القادمة إلى البوسنة والهرسك ستكون بهدف :"إيجاد حل للأزمة السياسية في البوسنة والهرسك" , لكن الإنتخابات التركية وبالتأكيد ستكون حاضرة بقوة في صلب زيارته.

إن اهتمام الرئيس إردوغان بتطوير الجانب السياسي لعلاقاته مع دول البلقان , لا يقل شأناً عن اهتمامه بالشأن الإقتصادي , خصوصاً وأن منطقة البلقان أصبحت سوقاً وأرضاً خصبة استطاعت في السنوات الأخيرة جذب المستثمرين الأتراك ، وانتشر رجال الأعمال الأتراك في ألبانيا ، ومقدونيا الشمالية ، وصربيا ، ناهيك عن البوسنة والهرسك وكوسوفو , بالتوازي مع أظهرته تلك البلدان من رغبةٍ لزيادة حجم التبادل مع تركيا , وعلى سبيل المثال , ومن خلال زيارة إردوغان الأخيرة إلى صربيا تم التوافق على رفع حجم التبادل التجاري بينهما إلى 2.5 مليار دولار , وعزم صربيا على البدء بشراء طائرات "بيرقدار" إعتباراً من بداية العام القادم. 

كذلك كانت تصريحات الرئيس التركي التي أطلقها من بلغراد لافتة , ومعادية للغرب , ووصف من خلالها السياسة الغربية المتعلقة بروسيا بـ "الخاطئة" و"الإستفزازية" , وبأنه "لا ينبغي الإستهانة بروسيا".

ومع التحول والمراجعة الشاملة للسياسة الخارجية التركية التي أعلنتها أنقرة مؤخراً , والإنعطافات ولعب الأدوار الدولية الإيجابية , يبقى من المهم للرئيس أردوغان أن يقتنص الفرص كعادته , ويستغل أضيق المساحات , وإنشغال الولايات المتحدة والقوى الكبرى أو حاجتها له , للإبتعاد عن قبضاتها المؤثرة , والأمريكية المتحكمة بالمفاصل الإقتصادية والسياسية التركية , والعسكرية أيضاً من خلال إحكام قبضتها على جميع دول حلف شمال الأطلسي , ويحاول تقديم بلاده على أسس طاعةٍ مختلفة عن الطاعة العمياء التي تظهرها دول القطيع السياسي الغربية وغيرها حول العالم , لكن "المغامرات التركية" غالباً ما تكون على حدود وساحات المصالح الإستراتيجية للقوى الكبرى , والولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي ، التي لن تسمح له بالتمرد الكامل , وتسعى دائماً للحد من نفوذه وقوته , نتيجة يقينها بأن روسيا تقاسمها "الكعكة التركية" , وتخشى ذهاب تركيا والرئيس إردوغان بعيداً في أرجحته للعمل ضد مصالحها والمصالح الأوروبية , وتفضل الحفاظ عليه في غرفة "الإنتظار" للإتحاد الأوروبي , عوضاً عن مهاجمته ثانيةً بشكلٍ مباشر كما حدث في إنقلاب 15 تموز عام 2016.

المهندس: ميشيل كلاغاصي

17/9/2022

 

No comments:

Post a Comment