Saturday, October 22, 2022

الأمم المتحدة لن تنقل البشر إلى الجنة.. لكن عليها إنقاذهم من الجحيم - م. ميشيل كلاغاصي


في عام 1954 أكد الأمين العام للأمم المتحدة داغ همرشولد، أن تأسيس الأمم المتحدة "لم يتم لقيادة البشرية الى الجنة، بل لإنقاذها من الجحيم"... 

لم تكن قرارات الأمم المتحدة منذ تأسيسها، مصدر سعادة وعدل وإنصاف دائم لجميع الدول الأعضاء فيها، وغالباً ما تسبب استخدام الفيتو أو حق النقض، الذي تتمتع به الدول الخمسة دائمة العضوية في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، بالإحباط  والأمل، والإنحياز والتسييس، والإنصاف أوعدمه، والقسوة والهيمنة، هذه المشاعر والمواقف دائمة الحضور داخل القاعات الأممية، ولا يمكن تصور حجم المعارك التي تدور رحاها بشكلٍ يومي تحت القباب الأممية، ويبقى حق النقض من أهم أسلحة الدول الخمسة عموماً ، مع فارق استخدامها من بعض الدول كالولايات المتحدة , وفقاً لمصالحها وليس لمصلحة ما نصت عليه نصوص وتشريعات وميثاق الأمم المتحدة، ولحماية الدول الصغيرة والضعيفة، وحقوق الإنسان، على عكس استخدامه من قبل روسيا والصين , بما ينسجم إضافةً للنصوص والتشريعات والميثاق , مع المعايير الأخلاقية والسياسة التاريخية لكلتا الدولتين , لإنصاف العديد من الدول ونصرة قضاياها العادلة , كما حدث في الحالة السورية , وما شابه من القضايا الدولية.

ويضرب الإنقسام وحدة الدول الأعضاء، بحسب أحلافها وسياساتها ومصالحها، وقوتها ونفوذها , ويذهب بها نحو مديح فريق من الدول الخمسة على حساب لوم الفريق الاّخر , ويبقى من السهولة بمكان ومن بديهيات العصر الحالي , إلقاء اللوم على الولايات المتحدة بإعتبارها المحرض الأول وربما الوحيد , على الصراعات العالمية , وبإساءة استخدام حق الفيتو , من خلال استراتيجيتها وأهدافها في الهيمنة والسيطرة على العالم , في وقتٍ تتداعى عديد الدول للمطالبة بإصلاح المؤسسة الأممية , ودفعها نحو الإلتزام بميثاقها و"شهادة ميلادها" التي خلقت لأجلها , فيما يطالب فريقٌ اّخر بإلغاء حق النقض , ويسعى اّخرون لزيادة عدد الدول التي تتمتع بحق النقض , تتعدد الدوافع والحجج والذرائع والمطالب المحقة والمضللة , ويبقى العالم حتى اللحظة خاضع لذات المعايير التي ادعت نظاماً دولياً يقوم على "القواعد" , التي لا زالت مفاعيلها سارية منذ خمسة وسبعون عاماً , وتحديداً ما بعد نهاية الحرب العالمية الثانية.

من الجدير بالذكر أن الدول الخمسة دائمة العضوية حتى اليوم، اعتمدت على إرثها التاريخي، ونتائج الحرب العالمية الثانية، مع مراعاة خروج البعض منهم منتصرين، فيما انتهى المهزومين إلى التحالف مع أحد أطراف الإنتصار، ألا وهو الولايات المتحدة الأمريكية، بالإضافة إلى سرعة امتلاكها القوة النووية , وبناء قوتها ومكانتها العسكرية الجديدة على أساس الهيمنة العسكرية للولايات المتحدة , وتم عقد الشراكة المتوحشة مع الأوروبيين , وتحولت إلى شرطي العالم , بعد منحها الثقة والتفويض بالقيادة المبنية على القوة , للتأثير والحفاظ على شكل النظام العالمي (العصر الأمريكي)، بهدف الحفاظ على مكاسبهم وإنجازاتهم، وهذا بدوره منحها القدرة على لعب دورها في لجم النزاعات أو تأجيجها، وفي توفير كافة عناصر تقلبات القوة الصلبة والناعمة.

في وقتٍ كان العالم يأمل أن يشكل حق الفيتو حاجزاً ومانعاً استباقياً ووقائياً، أمام استشعار المخاطر، في وجه نوايا الدول المارقة والمعتدية , لمنعها من العدوان , ولوأد الصراع في مهده , لكن واقع العلاقات الدولية والمشاركة لا يزال متجذراً في الحقيقة التي لا يمكن إنكارها , المتمثلة بحاجة القوى الصغرى إلى ضمانات أمنية من القوى الكبرى ، كشكل من أشكال الثقة والإلتزام المعياري.

لقد سعت واشنطن وحلفائها في باريس وبرلين، لإخضاع العالم وفق رغباتهم ومصالحهم عبر الأمم المتحدة واستخدام الهيمنة على قرار عديد من الدول الصغيرة والضعيفة، واستخدام حق الفيتو، إلى تحييد المنظمة الأممية عن مسارها ودورها الأساس، ودفعها نحو تسييس القضايا والملفات بعيداً عن الحقوق والقانون الدولي، وميثاق الأمم المتحدة، بما في ذلك سياسة الكيل بمكيالين والنفاق المكشوف، وساهمت بذلك بتأجيج الصراعات، وبإستغلال القوة غير المتوازنة في مجلس الأمن، دون مراعاة وجود دولٍ وقوى أخرى قادرة وفاعلة ومؤثرة داخل مجموعة الدول الخمسة الدائمة العضوية كروسيا والصين، الذين حاولوا على الرغم من مخاطر كبح "الشرّ الدولي" , ولجم النظام العالمي الأحادي المتوحش الذي تفردت من خلاله الولايات المتحدة بحكم العالم لأكثر من ربع قرن، وتحديداً منذ إنهيار وتفكك الإتحاد السوفيتي، في محاولة لمنع إنزلاق العالم نحو الفوضى أكثر فأكثر.

تدل الإحصائيات على أن الولايات المتحدة، والإتحاد الروسي والصين، هي أكثر الدول استخداماً  لحق النقض، وخصوصاً في السنوات الأخيرة، بهدف ضمان المصالح الجوهرية خصوصاً لموسكو وبكين، وإرتباط استخدامها بخطورة الملفات والقضايا والصراعات التي فرضتها عليهم الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين، خصوصاً ما يتعلق بأوكرانيا وتايوان، ناهيك عن عدة قضايا وصراعات تمتلك من الأهمية ما يكفي لتغيير التوازن الدولي وإنجراره نحو الحروب الشاملة والجرثومية والنووية , وسط قراءة واقعية وحقيقة وجود مسرحها الرئيسي على غالبية أراضي القارة الأوروبية، في وقتٍ لا تُستبعد أن تكون مسارحها الموازية في الشرق الأوسط واّسيا الوسطى ومياه المحيطين الهادئ والهندي.

لم يعد بالإمكان المراهنة على تبرير مواقف الدول الكبرى التي تشكل الأطراف الرئيسية في الصراعات الحالية , ولا يوجد إجماع عالمي على تأييد أو إدانة تلك المواقف , ولا بد أن يحصل التوافق مجدداً على دعم ودعوة كافة الأطراف للإلتزام بالقواعد والمعايير المتفق عليها في إطار الأمم المتحدة , لتصحيح الأخطاء والوقوف بوجه التنمر الغربي، وإتاحة الفرصة أمام الديمقراطية العادلة للعمل بشكلٍ أفضل، خصوصاً مع التشدق الدائم لواشنطن وحلفائها الغربيين بشعارات الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان.

مع كافة الحقائق والدلائل التي تشير إلى بدء تشكل ملامح النظام العالمي الجديد متعدد الأقطاب، في ظل رفض إعتراف واشنطن وفريقها الأوروبي بذلك , ولجوئهم نحو إشعال الحروب حول العالم، والتصعيد العسكري المتزايد على الجبهة الأوكرانية، وغياب كل ما يشي بتوقف المواجهة الساخنة ما بين روسيا من جهة، والولايات المتحدة و"ناتو" والإتحاد الأوروبي من جهةٍ أخرى، قبل حلول فصل الشتاء، يبقى من المهم التأكيد على صعوبة المرحلة الوسطية - الإنتقالية، التي لم تؤكد بعد موت النظام الأحادي، وولادة جديدة للنظام متعدد الأقطاب، ولحين تبلور نتائج الصراع، لا بد من وقف الحديث عن إمكانية استخدام أي طرف للسلاح النووي، أو التهديد الفعلي به، وحتى التهويل السياسي والإعلامي، فقد لا يعرف الساسة منسوب الرعب والخوف والهواجس والكوابيس التي تعصف برؤوس البشر.

ولا بد للأمم المتحدة أن تخرج من ضعفها وعجزها، وتحاول القيام بمهامها الحقيقية في حفظ الأمن والسلم الدوليين ولو بالحد الأدنى، وبما يبعد شبح الحرب النووية، ويفتح باب الأمل عبر إيجاد الحلول السياسية والسلمية، بما يضمن الأمن القومي للدول التي استشعرت تهديداً وتجاوزاً لخطوطها الحمراء، وتحديداً روسيا والصين، ووقف المخططات الخبيثة، التي فرضت الحرب والجوع والفقر والبرد والبطالة والهجرة ... إلخ , ناهيك عن الضحايا الذين فقدوا أرواحهم كمدنيين أو حتى كجنود وعسكريين .. ومن حيث النتيجة، يأمل العالم في حال لم يكن بإمكان الأمم المتحدة نقل البشر إلى الجنة، فأقله يتوجب عليها إنقاذهم من الجحيم .

المهندس: ميشيل كلاغاصي

8/10/2022

 

No comments:

Post a Comment