Saturday, August 20, 2022

شيءٌ ما قد تغير .. واشنطن تُهزم في "حديقتها الخلفية" - م. ميشيل كلاغاصي


كشفت العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا , أن شيئاً ما قد تغير فيما تعتبره واشنطن حديقتها الخلفية , وبأن بعض دولها خرجت عن صمتها , وعن بيت الطاعة الأمريكي , ولم تعد تهاب الإغتيالات , ومحاولات قلب الأنظمة من داخلها , على الرغم من المحاولات الدؤوبة للولايات المتحدة لصبغ دول "الحديقة" باليمين وبمحاربة اليسار , والأهم محاربة من يخالفها , لقد تجاوزت غالبية تلك الدول مرحلة إبداء رأيها والتصويت وتأييد مشاريع القرارات الأمريكية في الجمعية العامة للأمم المتحدة , لتفادي الغضب الأمريكي , خصوصاً بعدما انتقلت واشنطن إلى مرحلة مطالبة تلك الدول بالإنضمام إلى جوقة العقوبات والحرب الإقتصادية على روسيا من بوابة الحرب في اوكرانيا , واعتمدت على الإبتزاز الأخلاقي لحشد "الحلفاء" ووحدة مواقفهم للرد على "الغزو الروسي" لأوكرانيا وإدانته.

على الرغم من نجاح واشنطن في اّذار/ مارس بحصد تأييد 141 دولة في الجمعية العامة للأمم المتحدة لإدانة العملية العسكرية الروسية الخاصة , ومن بينها غالبية دول امريكا اللاتينية , رغم علاقاتها الجيدة مع موسكو , في الوقت الذي جاء فيه إعلان الرئيس بولسونارو تعبيراً عن لسان حال كافة الدول اللاتينية بقوله :"أصبح التعاون مع موسكو مكلفاً" , وفي الوقت الذي لا تترتب فيه على قرارات الجمعية العامة أية عواقب قانونية ملزمة , اهتمت واشنطن بحشد تأييدٍ دولي من شانه الضغط على موسكو وإدانة سلوكها لتأكيد شيطنتها والعمل على عزلتها ومحاصرتها.

إن لجوء الولايات المتحدة إلى ألد أعدائها في فنزويلا بهدف تأمين النفط لحلفائها الأوروبيين , يؤكد إنتزاع بعض دول أمريكا اللاتينية الشيء الكثير من استقلاليتها , وخروجها عن "الوصاية" , والإنتقال إلى مرحلة الحوار المتكافئ مع واشنطن , ويكشف امتداد خط الشرخ الجيو سياسي الأمريكي إلى دول "الحديقة الخلفية", التي باتت تقترب أكثر فأكثر من مصالحها الوطنية على حساب التخلص من الهيمنة الأمريكية عليها.

على الرغم من نجاح واشنطن بمهزلة تجنيد الدول الأوروبية لقتال موسكو ومعاقبتها , لكنها واجهت الهزيمة أمام المكسيك والبرازيل والأرجنتين وفنزويلا وبوليفيا وباراغواي وكولومبيا وتشيلي , على اختلاف مواقفها الظاهرية , ووجهة النظر في تعاملها مع القرار 141 من الجانب الإنساني البعيد عن التسيس , وفاجئتها صفعة الرئيس البرازيلي بقوله:"لن نفرض العقوبات الإقتصادية على روسيا , وسنعمل للحفاظ على علاقاتنا الجيدة معها".

لقد رفضت الأرجنتين والبرازيل وبوليفيا والأوروغواي والسلفادور التوقيع على القرار ، وبحسب توصيف الرئيس السلفادوري نجيب بوكيلي لما يحصل في أوكرانيا : بأن " الحرب الحقيقية ليست بين أوكرانيا وروسيا ، وهي في كندا وأستراليا وفرنسا وبروكسل وبريطانيا العظمى وألمانيا وإيطاليا وغيرها ".

إن ما يمكن تسميته اليوم بالعصيان "اللاتيني" , يستند إلى الإتفاق القديم الملغي نصاً في عهد أوباما , والذي لا زال سارياً روحاً ومفعولاً , وما كان يعرف بـ "مبدأ مونرو" الذي قام على أساس أن تكون "أمريكا للأميركيين" , بمعنى عدم تدخل الدول والقوى الأوروبية في شؤون القارة "الأمريكية" , والتوقف عن محاولات استعادة مستعمراتها السابقة ، مقابل عدم تدخل الولايات المتحدة بدورها في الشؤون الأوروبية ... وقد منح هذا المبدأ الولايات المتحدة الفرصة لتحويل دول أمريكا اللاتينية بشكلٍ لا أخلاقي إلى دول في حديقتها الخلفية الخاصة , بعدما أخضعتها بالهيمنة والتدخل المباشر وبقلب الأنظمة , كذلك بإستخدام القوة العسكرية , فقد احتل الأمريكيون نيكاراغوا 21 عاماً , وهايتي 19 عاماً , وجمهورية الدومينيكان 8 أعوام ، وتكرر احتلال كوبا وهايتي لمرتين. 

لم يكن السلوك الأمريكي تجاه دول أمريكا اللاتينية ليختلف عن السلوك الأوروبي كمستعمرٍ قديم , بل تعداه ليكون استعماراً حديثاً ومن نوعٍ جديد... بالتأكيد شكّل ذاكرةً سيئة وتاريخ مؤلم , كان له أثر كبير بالوقوف وراء مشاعر كراهية تلك الدول للدولة الأمريكية العظمى , التي تطالبهم اليوم بعداء إيران والصين , وبكراهية موسكو ومعاقبتها..!.

وفي ذات السياق , تحولت نتائج المؤتمر الخامس عشر لوزراء الدفاع الأمريكيين , الذي عقد في العاصمة البرازيلية يومي 25 و 29 تموز إلى فضيحةٍ مدوية , نتيجة رفض البرازيل والأرجنتين والمكسيك دعوة الولايات المتحدة لإدانة روسيا , وسط تأكيدهم على أن "حل النزاع في أوكرانيا منوط بالأمم المتحدة , وليس بوزراء الدفاع الأمريكيين".

لقد ساهم السلوك الأمريكي الذي اتبعته تجاه دول القارة الأمريكية , حماسة تلك الدول ونخبها الحاكمة للتركيز على ما يحدث داخل الولايات المتحدة نفسها , وطريقة إتخاذ القرارات بما يتماشى مع المصالح الخاصة لطبقة النيوليبراليين المتطرفين , وأصحا ب المصلحة الحقيقية في إشاعة الحروب والفوضى حول العالم.

إن رفض تلك الدول لإيديولوجيا الغطرسة والهيمنة للرأسمالية الغربية , لا يعني اختيارها الإيديولوجيا الإشتراكية السوفيتية , لكن وعلى ما يبدو أنهم يبحثون الإكتفاء الذاتي , والإستقلال السياسي عن الولايات المتحدة ونيوليبرالييها الجدد , في وقتٍ امتلك فيه بعضها من القوة ما جعلها تنضم إلى القوى الإقليمية الهامة , واقتحام مجموعة العشرين , واحتلال مكانة مرموقة واعدة في إطار منتدى التعاون الإقتصادي لدول آسيا الوسطى والمحيطين الهندي والهادئ , مع اقتراب إنضمام الأرجنتين إلى دول البريكس قريباً.

إن اهتمام الدول اللاتينية بإستقلال قرارها عن الولايات المتحدة , لا يعني فك عرى التعاون , والإتجاه نحو العداء مع واشنطن , بقدر ما هو بحثٌ عن التوازن والإستقرار الإقليمي كجزء من التوازن والإستقرار العالمي , ويلتقي في الوقت ذاته مع تطلعات العديد من الدول حول العالم كالصين وروسيا وكوريا الشمالية وإيران وسوريا وغيرها , وتبقى وحدها الولايات المتحدة وقادة الدول الأوروبية الحليفة لها , من تجد فرصها في السير وراء السياسة الخارجية للولايات المتحدة , عبر تكريس ظاهرة "القطيع السياسي" , الذي وجد نفسه وقد تحول إلى "قطيعٍ عسكري" كما حصل اليوم في أوكرانيا.

م. ميشال كلاغاصي

9/8/2022

 

No comments:

Post a Comment