مالذي يحدث بين الولايات المتحدة ودولة روسيا الإتحادية , البعض يسميها بـ"الحرب الباردة" , على الرغم من المواجهات الميدانية التي لا تزال مستمرة , بعضها بشكل محدود لكنه مباشر ووجهاً لوجه كما حدث في سوريا , أو بشكل غير مباشر عبر الدعم الذي يقدمه كل منهما لحلفائه وشركائه ... حتى المواجهة السياسية لم تعد كالسابق , وأخذت تنحى منحىً تصاعدياً , تخطى العقوبات الأمريكية على روسيا , والحصار الإقتصادي , الصراع في الشرق الأوسط , وملفات خطوط الطاقة , والعلاقات مع أوروبا , والإقتراب المستمر لحلف الناتو من الحدود الحيوية والجغرافية للدولة الروسية , بالإضافة إلى المحاولات المستمرة لزعزعة الداخل الروسي , وحملات الشيطنة الإعلامية للدور الروسي حول العالم .
فمن استمع لخطاب الرئيس جو بايدن الأول , وخطابه في مؤتمر
ميونخ للأمن , وما بينهما إلى خطاب الرئيس بوتين في دافوس , وما تحدث عنه خلال اجتماعه
بهيئات الأمن الروسية , يتأكد بأنه يستمع إلى خطابات الرد والرد المقابل , فاللغة والنبرة
والمفردات تغيرت , وأصبحت أكثر قسوة خصوصاً من الجانب الأمريكي , وبدا خروج الرئيس
بايدن عن دبلوماسية الخطاب واضحاً و واعداً ومبشراً بمرحلة جديدة تختلف عن تاريخ العلاقات
بينهما.
وإذا كان لا بد وأن يُبنى على الشيء مقتضاه , فقد نرى مقاربات
مختلفة في معالجة الملفات الشائكة والمعقدة , بعيداً عن المألوف والمتوقع... ولمن يعشق
الوقوف على الأطلال , فقد كانتا حليفتين وانتصرتا معاً في الحرب العالمية , وتقاسمتا
النفوذ العالمي , وعبر المسيرة الطويلة تحولتا من التحالف إلى المنافسة فهل وصلتا إلى
العداء المطلق ؟.
فقد كان خطاب بوتين في دافوس حاداً , انتقد فيه دول الغرب
والنماذج الاقتصادية الغربية , واتهم دول الغرب بـ "شنّ حرب اقتصادية على العالم"
, وأشار إلى "خطورة انهيار النموذج الاقتصادي الغربي" , الأمر الذي سيدفع
للخروج عن السيطرة إذا لم يتم منعه وإيقافه... وأكد أن "أزمة النماذج الاقتصادية الغربية"
أدت إلى بروز التطرف الراديكالي اليميني واليساري ، بشكل أثرّ على طبيعة العلاقات الدولية،
وعلى استقرار وإضعاف المؤسسات الدوليّة ، وجعلت الصراعات الإقليمية تظهر الواحدة تلو الأخرى، وإلى تدهور نظام الأمن العالمي , والذي
بدوره سيشكل انهياراً كبيراً في التنمية العالمية، بما سيضاعف التناقضات وتصنيف من
هم الأعداء الداخليين والخارجيين , ومن هو كبش الفداء في هذه الحرب , ورأى بأنها وبمجملها
أمورٌ ستتسبب "بنتائج ديموغرافية سلبية بالتأكيد , وبأزماتٍ إقتصادية واجتماعية
, وأزمة قيم".
فيما أتى رد بايدن في مؤتمر ميونخ للأمن , أكثر حدة من خطاب
بوتين , وكاد حديثه ينحصر بالرد على روسيا , وبدا كمن يكشر عن أنيابه ويكشف نوايا إدارته
حول إعادة التموضع الأمريكي الجديد – القديم , على الرغم من فظاظة كلامه وخطورة إتهاماته
بقوله:" علينا مواجهة تهديدات روسيا لنظامنا , النظام الروسي هو نظام فاسد وبوتين
يسعى إلى مواجهة النظام الأوروبي , روسيا تقوم بمهاجمة "الديمقراطية الأميركية"
وتشكّل تهديداً لنا ولأوروبا ونحن لا نريد المواجهة".
قابله بوتين بالرد المناسب خلال اجتماعه بهيئات الأمن الروسية
, وأكد في إشارة مباشرة للولايات المتحدة بأن “الإرهاب والجريمة العابرة للحدود , تمثل
التهديد الأكبر والأكثر خطورة" و أن " بعض الدول لا تخفي مواقفها اللا ودية
تجاه روسيا وتقوم بشن حملات إعلامية ضدها" , وبأنهم يذهبون إلى أبعد من ذلك من
خلال خطابهم العدواني وإتهاماتهم التي لا أساس لها" , والتي تجعل من روسيا
"ضحية التضليل الجماعي" لوسائل الإعلام الغربية... ولم يخفِ قلقه من
"اللعبة الأمريكية – بلا قواعد" , بأن تؤدي إلى "تضاعف خطر العمل العسكري
الأحادي" , وأن يتم استغلال "التنافس بين الدول وأن يتحول التحدي لمجرد ضمان
عدم تدهوره إلى حرب".
يبدو أن إدارة بايدن عازمة على معالجة الجروح الأمريكية
, لكنها لم تعثر بعد على الطريق الصحيح , بعدما أضاعت فرصة تفردها بالعالم , وقادتها
سياساتها المتغطرسة وشهواتها نحو تحطيمٍ كلي لإدعاءاتها الإعلامية وشعاراتها الزائفة
, وظهرت حقيقة مخططاتها العدوانية الخبيثة , التي أشاعت الفوضى والحروب حول العالم
, والتي بفضلها لم يعد الكوكب مكاناً اّمناً لحياة البشر .
يبدو أنها أعتقدت أن العالم كان نائماً في سني تفردها , لكنها
فوجئت بتراجع إقتصادها وبأزماتها الداخلية , وإنقسام شعبها وإنسياقه نحو التطرف والعنصرية
والعرقية ... وبتعثر سياساتها الخارجية وبوصولها إلى الحائط المسدود , بما قد يبشرها
بهزائم عسكرية وسياسية غير متوقعة هنا أو هناك , وأصبح من الضروري لها أن تتوقف عن
ذهنية القوة العسكرية والحروب التجارية وسياسة العقوبات والحصار وتغيير الأنظمة الشرعية
والتدخل في شؤونها الداخلية , والإعتماد على الإرهاب .
يبدو أن استراتيجية الإدارة الأمريكية الجديدة لن تتغير
, ولا يبشر خطاب الرئيس بايدن بإستراتيجية أمريكية عاقلة , خصوصاً مع كلامه عن عودة
حلف الأطلسي ودعم دوله عسكرياً , والتصعيد الكبير والمعلن في مواجهة موسكو وبكين وطهران
وغيرها , ومحاولة الضغط على الدول الأوروبية للبقاء تحت الإبط الأمريكي , ومنعها من
"البحث عن مستقبلها ومصيرها بعيداً عن هيمنة الولايات المتحدة" – بحسب مواقف
سابقة للرئيس ماكرون والمستشارة ميركل-.
وبات على الولايات المتحدة رؤية العالم الجديد , الذي تتكاتف
فيه الدول لمواجهة التحديات , وبالبحث المشترك عن حلول المشاكل العالمية , والعودة
أكثر فأكثر نحو الإلتزام بالقانون الدولي والقواعد الدولية , بدلاً من السعي وراء التفرد
والسيطرة على العالم , ومنح العالم فرصة التنافس الحقيقي دون أن يتحول نحو الكراهية
والعداء والمواجهة.
المهندس: ميشيل كلاغاصي
26/2/20201
No comments:
Post a Comment