Tuesday, January 18, 2022

الفرنسيون يهربون من أفريقيا كما هرب الأمريكيون من أفغانستان - م. ميشيل كلاغاصي


 على الرغم من فظاعة وشناعة الإحتلال , لا تزال الدول الإستعمارية صاحبة الشهوات التوسعية العاشقة لسرقة ثروات الدول والشعوب , غير الاّبهة بالقوانين الدولية وبالقيم الأخلاقية والإنسانية , بحشد قواتها وإمكاناتها العسكرية والسياسية والإقتصادية لدعم سلوكها وذهنيتها الإستعمارية , في الوقت الذي تدعي فيه الديمقراطية , وتحمل لواء الدفاع عن الحرية وحقوق الإنسان لتبرير غزو واستمرار استعمار الدول.

ولا زال العالم يشهد استمرار الإحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية في فلسطين والجولان السوري وبعض الأراضي اللبنانية , كذلك يرى بأم عينه تطور التوسع العسكري الإستعماري الأمريكي والفرنسي والبريطاني والتركي وغيره , همهم الزحف نحو بلاد الغير لكسب موطئ قدم يضمن هيمنتهم وشرورهم مقابل أطماعهم وأحقادهم وغطرستهم , على الرغم من الأثمان التي يتكبدونها بأرواح جنودهم الباحثين عمل الأموال والرواتب الكبيرة لبدء حياتهم على حساب حياة نظرائهم من شباب الدول التي تتعرض للغزو والإحتلال.

وعبر القرون والعقود نجحوا بالكثير من مخططاتهم الإستعمارية والتوسعية , لكنهم بالمقابل تذوقوا الفشل وتعرضوا لعشرات الهزائم , على غرار خروجهم المذل من جنوب لبنان والقنيطرة , وبإنتظار رحيلهم الحقيقي من العراق , والحتمي من سوريا , في تكرارٍ لمشهد خروج القوات الأمريكية من أفغانستان بعدعشرين عاماً من غزوه.

كان على القوات الفرنسية أن تبدأ في الإجلاء من مالي بعد ثماني سنوات من ذرائع تواجدها العسكري كجزء من عملية برخان لمكافحة الإرهاب ، وبحسب وزارة الدفاع الفرنسية ، فقد سحبت فرنسا قواتها مؤخراً من شمال مالي وسلمت بعض المدن إلى جيشها الوطني ، حيث تم تنفيذ الإنسحاب بشكل تدريجي بالتنسيق مع الحكومة المالية وبعثة الأمم المتحدة هناك , وفي نهاية تشرين الأول الماضي ، قلصت قيادة  عملية برخان الفرنسية عدد موظفيها بالقرب من الحدود الجزائرية إلى80 موظفاً , وأبقتهم إلى جوار 500 جندي فرنسي , كما غادرت 140 شاحنة هذا الموقع وهي تحمل معظم المعدات اللوجستية إلى مدينة جاو , كما اخلت قاعدتها في مدينة كيدال , وتركت خلفها مفرزة رمزية صغيرة... بالتأكيد هم يهربون في مشهدٍ مشابه لهروب قوات الغزو الأمريكي والناتو من أفغانستان , مع فارق أنهم استطاعوا تحييد مشهد الإنسحاب المذل عن الإعلام.

لقد لعبت فرنسا دوراً سيئاً للغاية , اعتمدت فيه على الإرهابيين من جماعة "أنصار الدين" التابعة لتنظيم القاعدة , لإنشاء جيبٍ إرهابي في مالي , وتذرعت بعملية برخان للقضاء عليهم , ومنعت الجيش المالي من الإتجاه نحو كيدال لمواجهتهم , في حين كانت السلطات الشرعية فيها قد طالبت العاصمة بدعمٍ جوي وبعمليات مراقبة فقط , وقد قامت جماعة "أنصار الدين"الإرهابية لاحقاً بشن أكثر من 60 هجوماً على قوات حفظ السلام , وأهدافٍ مدنية وعسكرية في مالي منذ عام 2016 حتى اليوم. 

لم تتخل الدولة الفرنسية وخارجيتها عن أية مناسبة لإظهار وإثبات سياستها العدائية تجاه مالي , وسبق للرئيس إيمانويل ماكرون في بيانٍ ألقاه في الخامس من شهر تشرين الأول/أكتوبر, حول شرعية الحكومة الحالية , تأكيده بأنها منبثقة عن إنقلابيين شهدتهما مالي منذ 2020 وهي باطلة ديمقراطياً , وقد أغضبت تصريحاته جميع الماليين . 

في حين ادان رئيس الوزراء المالي تشوجويل مايغا في كلمة بلاده أمام الدورة 76 للجمعية العامة للأمم المتحدة ، تصرفات وسياسات الدولة الفرنسية في المنطقة , وأشار إلى أن باريس تخلت عن باماكو في منتصف الرحلة وتركتها وحيدة بمواجهة الإرهابيين , عندما فشلت عملية برخان ، التي أطلقتها فرنسا قبل عدة سنوات ، فشلاً ذريعاً ..  فيما تورط جنودٌ فرنسيون في عمليات إجرامية للسيطرة على تهريب المخدرات ونهب موارد البلاد , الأمر الذي دفع مالي للجوء إلى شركة عسكرية روسية لدعمها في مكافحة الإرهابيين – بحسب رئيس وزراء مالي - ، ما أثار حفيظة واستياء باريس , وجعل وزير الخارجية الفرنسي لودريان يتجه نحو تهديد الكرملن بـ "عواقب وخيمة".

لاتزال باريس تعتبر مالي وعدد من الدول الأفريقية الأخرى كمحميات وأراضٍ فرنسية ، وتبذل قصارى جهدها لمنع تعزيزعلاقات المستعمرات الفرنسية السابقة مع غير دول وعلى رأسها روسيا .. ومن أجل ذلك , حاولت استخدام الإتحاد الأوروبي لفرض عقوبات على أفراد وكيانات روسية زعمت أنهم يرتبطون بعلاقات مباشرة مع شركة فاغنر العسكرية الخاصة.

فقدت فرنسا الكثير من هيبتها ومن قوة تواجدها العسكري في مالي , بعدما اضطرت لإنهاء عملية بريخان , وصبت إهتمام خارجيتها على الإنتقاد المستمر لنشاطات شركة فاغنر في مالي , التي تعتبرها تتعارض مع استمرار الوجود العسكري الفرنسي هناك , في الوقت الذي كان فيه الوزير سيرغي لافروف شديد الوضوح والصراحة خلال مؤتمر صحفي على هامش الدورة 76 للجمعية العامة للأمم المتحدة عندما قال: "إن أية أسئلة تتعلق بوجود الشركات العسكرية الخاصة في مالي ، هي من اختصاص السلطات المالية ، وأن سوق الخدمات التي تقدمها الشركات العسكرية الخاصة في مجال التعاون العسكري ، تم إنشاؤه وتطويره على وجه التحديد من قبل الدول الغربية , وتعتمده كل من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا.

للأسف أن تحصل باريس على بعض الدعم الأوروبي من خلال أضيق الزوايا والمصالح ، بما في ذلك الدعم المقدم من اليونان والإتحاد الأوروبي وحتى الولايات المتحدة الأمريكية ، لكن هذا لم يعفي تلك الدول وغيرها من إنتقاد سياسة فرنسا الإستعمارية في عموم أفريقيا , عندما تكون لها مصلحة في ذلك أيضاً .

ويبقى السؤال إلى متى ستستمر فرنسا في إعتماد سياستها الإستعمارية خارج حدودها , وتحديداً في القارة الأفريقية , وسط تنامي مشاعر الغضب والكراهية ومطالبة تلك الشعوب بإنتهاء مرحلة الإستعمار , وإلى متى سيستمر نهب خيراتها وثرواتها وحتى أبنائها , ومنحهم الجنسية الفرنسية لإخفاء عملية سرقة البشر.

ميشيل كلاغاصي

16/1/2022

No comments:

Post a Comment